السوداني رغم بساطته، يصعب على المرء الغوص في أعماق مزاجه المتباينة الألوان كما البحر، كنت قد اخترت عنواناً يحمل ذات مدلول العنوان أعلاه غير أن الفعل فيه بمنطوقه اللفظي يعني العجز أو دلالاته وهو هل أفلحت الإنقاذ في استعدال المزاج السياسي السوداني؟.. الفعل أفلحت ينسب إلى الإنقاذ والفعل استعصى ينسب إلى المزاج السياسي السوداني.. وشتان ما بين الفعلين في القوة والإرادة، غير أني في النهاية عدلت مزاجي بأن العنوانين وجهان لعملة واحدة صاحب صكها وأحبارها المتنوعة ومن يقوم بتشذيب أطرافها والنقش عليها هي الإنقاذ! يرى الكثيرون ومن بينهم بعض أهل الإنقاذ نفسها، أن أثر الإنقاذ على المزاج السياسي السوداني لم يكن بالقدر أو المستوى المطلوب سياسياً واجتماعياً، مضافاً إلى ذلك مؤخراً المتطلبات الاقتصادية وذلك حسب المعطيات والوقائع الكائنة والتي يتأثر بها المزاج السياسي حتى وإن لم تكن الإنقاذ سبباً لها أو فيها.. فهي شريك بالتوارث السيبكاوي واقتفاء الآثار بحيث لم تستطع الانعتاق من عباءة الموروث التنظيمي وهي صاحبة فكر متجدد الأمر الذي أفقدها الكثير على المستوى التنظيمي الداخلي أو العلاقات البينية مع شركاء الحكم أو الأحباب في المعتقد. نهج الإنقاذ في التربية السياسية والمتغيرات التي طرأت عليه لعوامل داخلية وخارجية خلق آفاقاً أو لِنَقُل أساليب جديدة للعقلية السياسية يستوي في ذلك من ينتمي للإنقاذ أو انضم إلى ركبها أو شاكسها أو عارضها وهنا يجب أن لا نتغافل عن أثر الجغرافية السكانية المتجددة كما التربة التي أفرزتها عوامل داخلية وخارجية فأصبح لها تأثير مباشر على المزاج السياسي السوداني، لقد اختلفت البيئة الحاضنة والمشكلة للعقلية السياسية في عهد الإنقاذ عن تلك التي كانت عند الاستقلال، لقد تغيرت مفردات الحشد الجماهيري ومتطلباته وغاياته لارتباطها بطبيعة الصراع السياسي الكائن والفكر الموجه له.. ولقد جاءت الإنقاذ بتقانة سياسية استطاعت بفعل قوتها أن تحد من فاعلية بعض القوى السياسية.. بل واستقطبت ثم اقتلعت بعض الرموز المؤثرة ولو إلى حين.. الأمر الذي حقق انتصارات للحكومة على المستوى التكتيكي.. أما إستراتيجياً فباعتبار الإنقاذ في مرحلتها الأولى أقرب إلى الشمولي.. نجد أنها قد استغرقت زمناً طويلاً في التأثير على النُخَب من التكنوقراط الذين آثروا الإبتعاد من جور السياسة إلى نور العلم وحتى الذين رموا بسهمهم أفرغت كنانتهم بعض المواقف السياسية والاقتصادية فانزووا حتى لا يكتووا، لقد علّمت الإنقاذ المزاج السياسي كيف الوقوف والانتظار على الرصيف واختيار أي القطارات تركب سواء مع أو في الاتجاه المعاكس. المزاج السياسي السوداني هو أكثر المزاجات العربية ولعاً وعشقاً للسياسة وألعابها ومستوعب لمتطلباتها ومدرك لمعنى مخرجاتها التي قادت في السابق إلى الاستقلال السياسي والفكري.. وأفضت إلى الديموقراطية بأي من أشكالها «موجهة أو غير ذلك» التي جربها المزاج السوداني، والإنقاذ وهي تتولى إدارة دفة البلاد بفهمها المرجعي والسياسي مزجت العجين بالدين.. ولعبت بين بيضة التمني وما هو متوقع منها أو فيها وحجر إزاحته ممتنعة إلا بحسابات وموازنات بالغة التعقيد «الأحزاب التقليدية».. فلأكثر من عقدين الإنقاذ تمارس الوثبات المختلفة وحتى تاريخه، ثم الإرتكاز وهي صاحبة أقوى مرتكز وموروث «كتاب الله» لوصدقت النوايا، ثم إنها قد وجدت المتكأ والملاذ تستنجد به وتهجع إليه «الشعب».. فهل يا ترى تمكنت أو أفلحت في استعدال المزاج السياسي السوداني بما يتوافق مع طرحها السياسي فكراً ومنهجاً وأسلوباً.. أم تنكب الطريق في بعض الممارسات الإدارية والتنفيذية والمتربصين لها يقلل بعد هذه السنين من قدرة الإنقاذ الثورة على استعدال هذا المزاج الفريد؟ إن ما أُتيح للإنقاذ بكل القياسات الزمنية والاجتماعية لم يتوفر أو يُتاح لغيرها من الأنظمة والحكومات مما يمكنها أو يجعلها تعيد تشكيل أو صياغة المزاج السياسي.. وبنظرة سريعة للتحولات التي صاحبت مسيرة الإنقاذ فمن الشرعية الثورية والتمكين برزت إلى حيز الوجود الحكومات الشعبية المصغرة «اللجان الشعبية» بقوتها المجتمعية وسطوتها السياسية، ثم جاءت تجربة التوالي السياسي التي وجدت الأحزاب متفرقة ثم أخيراً الكيان الجامع الذي استقطب إلى جانب أهل الإنقاذ جموعاً من ألوان الطيف السياسي الأخرى خاصة تلك التي كانت في مرحلة انعدام الوزن واللا وعي ثم أصبحت لا منتمية بسبب المتغيرات المتتالية. مما لا شك فيه أن الانتماء في حقيقته عطاء وولاء وأهم منطلقات هذا الانتماء هو التجرد المرتبط بالقيم الواضحة والمفهومة.. والإنقاذ في نسختها الأولى أطّرت الانتماء لها بالعطاء والولاء للوطن وربطت ذلك بقيم المجتمع وموروثاته لذا كان المزاج السوداني الكلي القومي في قمة مراتبه.. وحيث ما سارت رياح الإنقاذ كانت رخاء وكانت حركات الجميع تحكمها المصلحة العامة.. لقد كان قطار الإنقاذ منضبطاً في مواعيده، كوابحه الفكرية والمادية يعمل الجميع لها ألف حساب حتى تغلبت بعض الفئات وأصبحت معالم هويتها الفكرية غير واضحة وغاياتها السياسية يشوبها الغرض ويحركها الهوى وأصبحوا يلبسون لكل مرحلة متوقعة لبوسها يظهرون الإخلاص وهم يبطنون خلاف ذلك.. تلك واحدة من مخرجات المفاصلة التي هتكت أستار كعبة الحركة الإسلامية وبالتالي انتاشتها سهام الأحزاب حتى وإن لم تكن قاتلة غير أن سمها سرى في الجسد السياسي للتنظيم.. فظهرت مواقع الاختراق وتسللت عبرها الكيانات السياسية الأخرى بذات الأسلوب الذي طبقته الإنقاذ عند اختراقها للأحزاب. بنظرة فاحصة وبتدقيق في ما بين الديموقراطيات والشموليات نجد أن المزاج السياسي قد تعلقت به فطريات وطحالب قللت من مناعته الذاتية وأخطرها «أي الفطريات» فطر التوارث الذي حاولت الإنقاذ إبادته.. فإذا بها تغذيه وترعاه، إنه نوع من التأثير الآني لأغراض المستقبل تتبناه الإنقاذ. إن الأحزاب وقياداتها ما عادت بذات الأخلاق التي نشأت عليها.. بل إن الانحرافات الفكرية والمسلكية أفسدت أجهزة عديدة جعلت المزاج السياسي السوداني كالمستجير من الرمضاء بالنار. إن الإنقاذ وقد تهيأت كل الظروف المواتية باستطاعتها «إذا أحسنت تقييم الرجال من حيث الخلق والكفاءة ثم الولاء» لاستعدال المزاج السياسي السوداني.. وعليها وهي تتوجه نحو مرحلة جديدة تقوم على وفاق وطني جاد، أن تَحذَر الواقفين على الرصيف وأولئك الذين يجيدون القفز والتلون سواء من منتسبيها وعليها أن لا تجرب مجرباً. إن المزاج السياسي السوداني رغم المؤثرات لا يزال بخير.. كما أن الإنقاذ بإمكانها عبر بعض الإجراءات الشفيفة والقوية أن تستعدل البندول التوافقي للمزاج السياسي السوداني.. فهل يسعفها الزمن؟ üفريق ركن