٭ مضوي الترابي صديق قديم.. تعرفت عليه لأول مرة بين جدران سجن كوبر العتيد عندما أخذتنا موجة الاعتقالات العشوائية لأول عهد الانقلاب أنا وزميلي يوسف الشنبلي والفريد تعبان من مراسلي الصحف الأجنبية بإيعاز من بعض متنطعي الصحافة، الذين صوروا للحكام الجدد حينها، أن مراسلي الصحف العربية والأجنبية ما هم إلا «عملاء» أو «طابور خامس».. فوفروا لنا فرصة تاريخية للالتقاء بقادة وكوادر الأحزاب السياسية الذين زجت بهم هوجة الانقلاب في السجون تحفظاً وتحوطاً لأنشطة مضادة، كنت أنا مديراً لمكتب «الاتحاد» والشنبلي مديراً لمكتب «البيان» الاماراتيين وكان تعبان مراسلاً لمكتب «رويترز» البريطانية. ٭ كان مضوي لا يزال شاباً، مضى للسجن بصحبة رفيق عمره صديق الهندي، وامتاز كلاهما بنضج سياسي مبكر، اتضح من المناقشات والحوارات التي كانت تنتظم عصارى السجن ولياليه، لكن مضوي الشاب النحيل الوسيم كان طابعه العام هو السخرية وخفة الظل والجرأة الملحوظة في طرح آرائه مع استشهاد بقراءات متعمقة في العلوم السياسية والتاريخ وفرتها له دراسته في فرنسا، فهو صديق وزميل لباحثين وكتاب كبار في مجال الإستراتيجيات الدولية وعلوم الاجتماع من أمثال عزمي بشارة وبرهان غليون، وإن لم يشتهر ويذيع صيته كما ذاع صيتهما، الأول كنائب منشق عن الكتلة العربية في الكنيست وكرئيس من بعد لمركز دراسات في قطر، والثاني كرئيس للمجلس الوطني السوري المعارض وكأحد قادة الثورة. ٭ فوجئت نهاية الاسبوع المنصرم (الخميس) بلقاء اجرته معه جريدة (اليوم التالي) من لندن، لقاء «مخدوم» أجرى خلاله الاستاذ حسن محمد علي حواراً دقيقاً وصريحاً مع الدكتور مضوي الترابي، عرفت من خلاله أن مضوي قد تعرض منذ وقت للاصابة بالداء اللعين كما ابتلى بمجموعة من الانزلاقات الغضروفية، وأنه- ولله الحمد والمنة- قد خضع للعلاج وشُفىَ وهو الآن يمضي فترة نقاهة واستجمام استجابة لنصائح الأطباء بالابتعاد من رهق العمل وشد الأعصاب، ونسأله تعالى أن يتم عليه نعمة العافية. ٭ في اللقاء أفضى مضوي الترابي بصراحته المعهودة ورؤيته التحليلة العميقة بخلاصة تجربته وتجربة حزبه «الاتحادي الديمقراطي المسجل»- أول وأهم أحزاب «التوالي»- في المصالحة والمشاركة مع «دولة الانقاذ»، وهي خلاصة مهمة في هذه الأيام التي ارتفعت فيها دعوة «الحوار الوطني»، خصوصاً بعد خطاب الرئيس الموسوم ب«الوثبة» والذي تداعت أحزاب كبيرة وكثيرة لسماعه من دون شروط مسبقة، بينما نأت أخري بنفسها ورأت ضرورة تهيئة المناخ وتوفير الضمانات لكي يُصبح الحوار منتجاً وتجد مخرجاته الطريق إلى التنفيذ، بالنظر لمصائر حوارات واتفاقات سابقة كثيرة تم إهالة التراب عليها وانتهت إلى نتيجة واحدة هي تمديد عمر النظام وشراء المزيد من الوقت. وهذا بالضبط ما يجعل إفادات د. مضوي الترابي ل«اليوم التالي» مهمة وتستحق الإضاءة عليها تعميماً للفائدة. ٭ في تشخيصه للواقع الراهن في البلاد، ورداً على سؤال محاوره، يقول مضوي: عندما أقارن واستعرض الوضع خلال الأربعين سنة الماضية لا أجد وضعاً مأزوماً وخطراً يمكن أن يعصف بوجود الدولة نفسها وبتماسكها كما أراه الآن.. واعتقد أن العقلاء والواقعيين من أهل الحكم واصلون لمثل هذه الرؤية، ولكن الانسان بطبعه ميال لسماع ما يحب، وأحياناً يسود التفكير الرغبوي ويطغى على صوت العقل، ولأهل الحكم (في معظمهم) عقل جْمعي يزايد على بعضه بحكم النشأة، والتكوين في كنف التنظيمات السراديبية- «يعني السرية»- وهي سمة ملازمة للتنظيمات العقائدية جميعها.. وأخشى أن معظمهم ومعهم أيضاً بعض عناصر المعارضة التقليدية لا يرون أن في نهاية هذا النفق هوة سحيقة لا قرار لها.. لذلك لابد أن يسرع الكل لتدارك الأمر. ٭ أما عن الحوار الوطني المطروح على الساحة الآن وآفاق نجاحه أو فشله.. فيرى مضوي الترابي: أن السياسة هي علم البدائل والحوار ضرورة من ضرورات ايجاد البدائل إن توفرت له مقومات الصدق والموضوعية، ولكنه لا يرى- كما قال- منهجاً متفقاً عليه يقود إلى ما يود الفرقاء الوصول إليه بالحوار.. فتجربة «الوطني»- الحزب الحاكم- مع رفقائه ومواليه عَمّقت عدم الثقة في «نخبة التمكين» الحاكمة.. ويصور مضوي بريشة رسام حاذق حال هذه النخبة في ما يلي التعامل مع الآخرين فيقول: هي تريد أن تعطي المعارضين غرفة مفروشة في دار رحبة هم شركاء في ملكيتها، محتفظة لنفسها (أي النخبة) بعداد الكهرباء ولوحة المفاتيح ومضخة المياه و (البلف) في الجانب الآخر من الدار، وهذا لن يؤدي إلى شيء سوى إعادة انتاج الأزمة في ظل متغيرات اقليمية ودولية بدأت في الاصطفاف وبدأت سحُبها الداكنة في التشكل منذرة بعواصف هوجاء في الأقليم والمنطقة، فمجال «المناورة» أصبح محدوداً.. (34) اتفاقية وحواراً مع حاملي السلاح وغير حامليه لم تنتج سلاماً ولا استقراراً، واصبحت الحرب الكبيرة تولد ثلاثة حروب جديدة والأزمة السياسية تنتج أعاصير تؤذي البصر وتدمر أزاهير ما زُرع. ٭ وينطلق مضوي ليحكي بعض تفاصيل تجربته الشخصية في التعامل مع نخبة الانقاذ الحاكمة وهو الذي كان يقود «مجلس أحزاب الوحدة الوطنية»- المشهورة بأحزاب التوالي- فيقول مكتبي السابق- مكتب «حزاب الوحدة الوطنية- كان من أشرف و أعد أوراق وأجندة ومنهاج «مؤتمر كنانة».. كان جهداً مُضنياً للنخبة السياسية والأكاديميا السودانية، لكنه أنتهى إلى حملة علاقات عامة و«محبس تنفيس» فوق مرجل الحراك السياسي.. وكان ينتظر- كما قال- أن تنشيء المرحلة اللاحقة في هيكلة الدولة والحكم جهازاً للمتابعة برئاسة الجمهورية لمتابعة تنفيذ ما يتفق عليه سياسياً مع الرئيس وإبعاده ما أمكن من أهواء الغرض والسياسة في كواليس الكوادر الوسيطة للمؤتمر الوطني المنتفعة من الفراغ، ومن البيروقراطية العاجزة.. ونصح مضوي بمراجعة «وثائق مؤتمر كنانة».. وقطع بأنه يرى «عقبات كبيرة ومتاريس أمام عجلة الحوار، وقد لا يتم التوافق حتى على بدئه» بسبب الثنائيات الحادة في المخيلة الجمعية بين الخيانة والوطنية.. الكفر والايمان.. الحوار وتفكيك النظام، وكل يغنى على ليلاه. ٭ أما عن تجربة مشاركة حزبه في الحكومة- حكومة البرنامج الوطني بعد مبادرة الشريف زين العابدين الهندي- أوضح مضوي أنه وزميله صديق الهندي لم يشاركا في أي جهاز للدولة، وكانا يتمنيان التريث «لصياغة وعد مربوط بعهد مع أهل الحكم» ولكن زملاءهم اشتركوا و «بكلفتة شديدة» مع المؤتمر الوطني.. وكانت النتيجة- كما يراها مضوي- تأجير لافتة الحزب الاتحادي للمؤتمر الوطني كاللافتات التي توجر على جدران المولات- الأسواق- الكبيرة.. وحكى من ثم محاولاته لاصلاح شأن حزبه من دون فائدة عبر مراحل عديدة رواها. ٭ وأخيراً.. فإن مضوي يعلق آمال الخلاص على الشباب، ويرى أن الشباب بدأوا يتجاوزون قياداتهم (جيل أكتوبر 4691) في كل الأحزاب وعما قريب سيفرضون واقعاً جديداً من الصعب التنبؤ بمآلاته، وهو- كما يقول- معهم بدون تحفظ فقد آن لجيلهم أن يترجل. ٭ هكذا رأى مضوي الترابي تجربته الذاتية واجتهاد حزبه عبر مبادرة الراحل الكبير زين العابدين الهندي، واستخلص الإفادات اعلاه ولسان حاله ومقاله كأنما يردد المثل القديم «الارضة جرّبت الحجر» اذ لابد ان النمل الابيض يشبه معارضة السودان التي جربت حجر الانقاذ وكان نصيبها الفشل!!