مع فواتح شهر الله تعالى رمضان أبدأ معكم هذه السياحة... فأبحر معكم في سياحة قرآنية عبر موضوع هو عنوان رسالة كتبتها قبل فترة والتي تحمل عنوان (أدب المكاشفة في القرآن).... والمكاشفة هي التعبير الصحيح عن التواصي بالحق والمراجعة، والرسالة تصب في أدب النقد الذاتي وقد صُغتُ إهداءً في مقدمتها يقرأ كالآتي: «وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ....» الانفال (62) ü الى أحبائي... السودانيين بكافة شرائحهم واتجاهاتهم ü وإلى العاملين في حقل الدعوة للإسلام بمختلف مذاهبهم ü وإلى الجيل الرائد من الشباب الذين حملوا هَمّ (المشروع الإسلامي) وقدموا في سبيله الكثير من التضحيات في شتى الميادين ü وإلى اخوتي القابضين على جمر الحاءات الثلاث (حكومة، حزب، حركة) إليهم جميعاً أسوق هذا البوح ومعهم أتناول هذه الهموم فعساي...... وعساهم..... وقبل ذلك كله......... عسى الله .وتمضي الرسالة فتحدثنا عن مشروعية المكاشفة والنقد الذاتي تأصيلاً من كتاب الله تعالى فتقول مادة كشف كما ورد في المفردات للراغب الأصفهاني: (كشفْت الثوب عن الوجه ويقال: «كشف غمه»، قال تعالى: «وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ» وقال تعالى«بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ» وقال تعالى:«أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» والكشف هو إزالة الستر عن الشيء... والمكاشفة: مصطلح معاصر يقصد به المواجهة والمناصحة والشفافية. والقرآن الكريم كتاب هداية: أنزله الله للبشرية جمعاء ليخرجهم من الظلمات إلى النور. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» ولقد نزل القرآن منجماً وعلى مدار (23) عاماً، وهي أعوام شهدت ميلاد الدعوة في مكة، ومسيرتها حتى وفاة رسول الله (صلى ا لله عليه وسلم)، ولقد تابع القرآن سلوك الصف المسلم: رصداً وتوجيهاً وتسديد مسار، ومارس أساليب شتى في التوجيه: العتاب، الزجر، النهي، الأمر التقويم والتقييم لأن الله رؤوف بعباده... خاصة المؤمنين منهم.. والمحاسبة والمراقبة تأتي من باب الرحمة بهم، والشفقة عليهم حتى لا ينحرفوا فَيخسروا الدنيا والآخرة. وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نموذجاً حقيقياً لهذا الحرص على المؤمنين وتوجيههم كما ورد عنه قوله «أخذ بحجزكم من النار».. وقد وصفه القرآن بقوله تعالى: «... بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» وقال عنه أيضاً: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ...». لذلك كانت المكاشفة من باب الإشفاق والرحمة لا من باب التشفَّي والسخرية والاستهزاء- كما تعوّد الناس أن يفهموا المكاشفة في حياتهم العادية- ويمارسونها بقصد الكيد وكشف العورات. المكاشفة في القرآن والتي انتظمت قرابة ال (20%) من آيات التنزيل هي مكاشفة هداية ورحمة وارتقاء. وَحّث القرآن المجتمع المسلم على الحرص على المكاشفة وسماها (التواصي) وهي مفردة حانية ينمُّ جرسها عن القرب والحرص على الإصلاح.. قال تعالى: «وَالْعَصْرِ ü إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍü إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ». صدق الله العظيم ولا تصلح المجتمعات إلا بوجود التواصي والتدافع... وإن مجتمعاً لا تواصي ولا تدافع فيه مجتمع آسن متعفّن. وتجدني أحمل الهمَّ للمجموعات التي تعّودت أنْ تبصم على كل شيء فهي لا حراك بها، وأتفاءل خيراً لمستقبل الجماعات التي يسود بينها هذا التواصي... وهذا التدافع. السطور التالية تتابع لوحات قرآنية مارس فيها القرآن عملية المكاشفة والتواصي مع الصف المسلم حتى يستقيم سيره، ويرقى إلى النموذج، والمثال الذي أراده الله سبحانه وتعالى للبشرية، ودعا له الإسلام، وسنبدأ فنتابع واحدة من محطات المكاشفة، ونختار البدريين (أهل بدر)، لأنهم صفوة أهل الله، ويمثلون الصف الأول من الصحابة ولنرى كيف احتفى بهم الحق.. فتابعهم، وتولى تربيتهم، ولاحق مواضع الضعف فيهم، وارتقى بهم إلى أن وصلوا مقام (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).. وسنتابعهم من خلال فصلين: ü الفصل الأول يتناول ظاهرة فتور إرادة القتال عند بعضهم ومواجهة القرآن وكذلك يتناول الأنفال وموقفهم منها.. ü الفصل الثاني: متابعة سلوكياتهم بعد أن انتصروا.... وعادوا إلى المدينة لبناء الدولة وكيف عالج القرآن الآفات التي تعتري المنتصرين (آفات التمكين). والله أسأل أن يرزقنا الأدب معه، والأدب مع رسوله، بل الأدب مع الصحابة عامة، ومع أهل بدر خاصة، لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم ملائكة البشر، وهم كما وصفهم الإمام الغزالي (أولئك أقوام مَسّتْهم طراوة الوحي المنزّل فأيقظت من أنفسهم ما كان ميتاً وأماتت ما كان حياً). وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.