«أدرِكْ سماءك يا خالقي، بعد هذا المزاد، بعد ذاك الجرس».. فهذا الليل حزين، وأنا غريب، وغصة فراق القاهرة لم تفارق حلقي بعدُ.. القاهرة مدينة لهلوبة، تحكمها خواصر الراقصات.. القاهرة طاعمة مثل قندول العيش.. إنها مدينة التحاويل، «وإنت عامل إيه»؟..! القاهرة كما الدنيا، تدخلها بالعويل، وأن تنتشل روحك منها فذاك أمر صعيب..! وضربت في الطريق الصحراوي.. عند كنيسة «سانت فاتيما» بمصر الجديدة، عبرت أُنثى.. أُنثى قوقازية، عليها نقش زمان التتار، جيدها ماحل، وصدرها رحيب، وحَاجِباها سوداوان يُحلِّقان فوق جبينها كجناحي طائر.. إييه، ساعة الوداع، تبدو المدينة أحلى من أي وقتٍ مضى..! دعاش البحر من ناحية الإسكندرية يأتي بسرديات الفرنسيس وهم يزحفون لترجمة المدونات القديمة، وللصحراء في الليل خرير الجداول، أنوارها مُضْمَحِلّة تتناثر في المدى كبقايا عطور عالقة في الذاكرة.. ذاكرتي معطونة بدعاش العرجون أوان الطلع، وجدائل بنفسجية لعيش الريف، وروث في الحقول، وتلك الرائحة.. رأيت البحر مرة أُخرى في مرسى مطروح، يُقال إن الصحراء هنا حقل من ألغام دفنها النازيون، لكن الشاطيء، شاطيء البحر، سيبقى مورداً للعاشقين الذين ما شبعوا أبداً من هذه الحياة.. عند شاطيء البحر رأيت أخرى بتفاصيلها تتبرّج للموج، الرياح تُناثِرُ شعرها كما تتناثر الوشايات بين صبايا، يكتشفن لأول مرة أنهن ركن أصيل في حديقة المساء..! تلك الأُخرى تناثرتها الرياح كما تناثرت الأيام وشاية سِتْ الوَدِع، بأن الإنقاذ ستبقى ل (61) سنة قادمة..! ومضيت مسافراً في رهاب البحر.. جيبي مخزول، أخاف ممّا سيأتي، وتحتشد ضلوعي باليأس والعزلة وألم الفراق.. ووطني لن يخرج قريباً من كوابيس الدفاع الشعبي..! سحنتي التي يُقال إنها سمراء جلبت لي أحاديث مع من يعرف، ومن لا يعرف..! كل من يجلس إلى جواري، أو أجلس إلى جواره يُبادرني بالسؤال عن حسن التُرابي، وعن الحرب في السودان، وعادي جداً، يسألُني الليبي وكأنه يقرأ تعويذة من منبع أصول الحِكمة: «عَنْدُكُمْ في السودان سماء..؟، عِنْدُكُمْ في السودان بحْرْ»؟..! في طريق عودتي من إحدى مزارع الصحراء سألنى ليبي في أربعينيات عمره: «منْ مَليكُكُمْ»..؟! أخشى أن أقول له إننا رعايا بدون راعٍ فيزداد بؤسي..! أخشى أن أقول له إننا دخلنا عصر «الجمهورية»، فيحاصرني بالمحجة الخضراء: «وليش ما تعملوها جماهيرية»..!؟ ويا عمي أنسى..! عند منفذ السلوم تتغير الأقوال والأفعال.. هناك أهبط قسراً، وأتبنى اضطرارياً ما يسمى بالثورة الاشتراكية من منظور الكتاب الأخضر.. من الآن وصاعداً عليّ أن أتعامل مع جداريات القذافي المبثوثة في الشوارع كأنها كائنات حية..! يمكنني منذ الآن «التشعُبط» في تشي جيفارا أنّى شئت، وسأقول لهم عندما تأتي مناسبة القول، إن جَدّي حارب فى خط القنال وإنه كان نديماً لجمال عبدالناصر، وإنه كان يشاركه صيد الحيتان عند خزان جبل الأولياء، سأقول لهم إن ثورة يوليو نبعت من أرض السودان، ولا ضير في ذلك، ف «الثورةُ أُنثى»..! لا شيء عند منفذ السّلوم غير العسكر، وجدلية البحر والصحراء وزغللة العيون في انتظار العبور.. هذا شجني مع البحر ومع الصحراء وأزمنة الجفاف.. عشرون عاماً من تلك الرحلة.. شبابٌ مثل الورد تركته خلفي، «كسروا الدِبْرِياش» في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العُظمى، وعُدتُ أنا..لم يتغيّر شيء يُذكر في خرطوم الجِنْ.. لم يزل عبد الحي يوسف يُصدر فتاويه، وما زال القوم يتحدثون عن الإستراتيجية القومية الشاملة، وعن رتق النسيج الاجتماعي..! لم يتغير شيء غير أن صوت الرائد يونس اختفى عند الظهيرة..!! يا قوم.. ما الذي يحدُث في هذه البِلاد..؟!