أكاد أن أبدأ خواطري هذه بعنوان«حكاية ملام» معبرًا عن عتابي الخالص لأخواني في (آخر لحظة) إذ أصلهم ويقطعوني...أحلم عنهم ويجفوني ...يستكتبونني من بعيد فأساهم معهم بقدر استطاعتي.. فأغيب لظروف ربما كان منشؤها الغضب أو المرض أو الحزن ولا حبيب يسأل أو زميل يواسي. ومع هذا فإن اطلالتي المتواضعة هنا تحركها عوامل عدة منها أنني أرى وهج أخي الحبيب حسن ساتي دائماً في هذه الجريدة...أبو وضاح الذي غاب منذ رحيله وهج التميز من فضاءاتنا العربية وفضائياتنا تحليلاً وتبييناً ونصاعة كما وأرى في الجريدة اخوة كثر يصدق فيهم قول الشاعر: اذا نلت منك الود فالمال هين وكل الذي فوق التراب ترابُ غاب حسن ساتي في عصر الطغمة الدموية المسماة «داعش» كما لم يشاهد ما يتم في غزة من تصفية عِرقية وما آل إليه حال بلاد كثيرة في محيطنا العربي منها وطننا الذي أثقلته الخطوب والنوازل وتوزع بنيه طلباً للسترة والرزق الحلال بين خطوط الطول والعرض. كم تمنيت لو أن أبا وضاح على قيد الحياة فيسعد بتولي صفيه وابن شيخه السفير عبدالمحمود عبد الحليم للسفارة ومقعد السودان في الجامعة العربية في مصر. كان وقتها سيجري حديثاً سلساً أراه يتجول في فراديس لغة التيجاني يوسف بشير معتزماً لمصر الذهاب فلجأ الى مزهره منتزعاً لواحن فيها الهوى والألم. وربما دلف الصديقان الحميمان إلى رياض حسن عوض ابي العلاء واسباب أذاه في مصر، وصبابات خليل فرح عن اخوة أبناء الوادي وربما دلفا متحدثين عن المعشوقة مصر بعيون الشاعر خلف الله بابكر: نحن من نحن غير مصر ومن ذا غير مصر عنا يزيل العارا قد بنت مسجدًا وأهدت سلاحا وبنت معهدًا وشادت منارا وتبنت قضية الشعب حتى فك من قيده وحل الإسارا ربما تنقل الصديقان عبر أغنيات السهر الجميل لأم كلثوم في رحاب الهادي آدم وتجليات الجارم وعزيز أباظة والعقاد وخرطوم اللاءات وصلات القربى بين البلدين ليخلصا الى أن مداخل الرحم الانساني والثقافي هي مقومات سيحملها أبودينا في حقيبته وقلبه وعقله مفتتحاً بها طقوس أسالت انهار العذوبة بين البلدين الشقيقين. أن وهج أبي وضاح لكفيل باستمرارنا رغم منعطفات التوجع والشكوى وظلم الآخرين في الاسهام جهد المستطاع لنبقي كلمة «العروسة» حية ومتقدة كما أرادها أبي وضاح والفريق الذي أنشأ معه هذه العروسة. وعلى كل حال وطالما أن الود يبقى ما بقى العتاب فإن«حكاية ملام» هي من أجمل أغنيات الراحل أحمد الجابري على الاطلاق، وكنت قد فهمت منه وقتها أنها تعبير عن حالة وجدانية بالغة الدقة صادفت الراحل الكبير بعد فقد والدته وتعرضه لمحنة الدخول في المستشفى النفسي وانفضاض سمار كثر عنه. ومع أن الفارق بيني وبين الفنان الراحل كبير في حقل المعاناة والصبابة إذ أزجي العتاب واللوم لأخوة كثيرين هناك فقد ظللت في الفترة الأخيرة أرقب حال الوطن وحال العالم وحالي هنا في محبس المسافة الطويلة الخرافية بيني وبين مقرن النيلين والشوق العارم لوطن يبدو لي كالسماء لكن سرعان ما يستعصم بالبعد عني تماماً كتلك الحسناء التي أدخلت مبدعنا جماع في أودية تعزف فيها الجن وتمتد فيها صحاري الهم والوهم والتوهم ... تيهاء صهيود لجأ اليها مبتغياً في سرابها الظل والسقيا فوجدها بعيدة عن عالمه الوردي السحري المجنون ...غبراء تعصف في أرجائها الريح وينعق فيها البوم وتموج الثعالب بين أطلالها الخربة. (2) وإذا جاز لي اتهام نفسي بأن لي أحبة كثيرين من القراء الذين جمعني بهم الأثير في قريتنا الكونية هذه ممن (يمايلونني) عبرالإيميل ويسلون عن بعض أشعاري وأخباري وأسراري فأقول إنها بخير فقد كان الشهر الكريم فرصة طيبة لارتياد مكتبات كثيرة مواصلة لتجهيز كتاب«كتابات المدن البعيدة» الذي قطع شوطاً لا بأس به رغم عقبات عدة هنا وهناك، كما وتم الفراغ من اعداد مخطوطة لديوان غنائي أسميته«مراكب حنين» آملاً أن يتم من خلاله الدفع بنوع جديد من الأغنيات في قاموس أمتنا المبدعة الفني، كما وتم الفراغ من اعداد الديوان الهجين الذي أسميته«أعناب ذاكرة البحر». وفي الشهر الفضيل أتاني من الله تعالى فتح مبين بالحصول على اذن من مجلة «صوفيSufi» لترجمة العديد من أشعارها إلى اللغة العربية محاولاً عبر التراجم التي أنجزتها الاحتفاظ بموسيقى عالية، ومراعياً للسياق والمحتوى الروحي لتلك الأشعار المتميزة.أن هذه المجلة الرفيعة التي تصدر في الولاياتالمتحدة، وتتخذ مكتباً لها في كل القارات، تهتم بدراسة الظاهرة الصوفية بكامل أبعادها الأدبية والتاريخية والفلسفية ومن حيث الممارسة بغض النظر عن المعتقد الديني. وكم تمنيت أن لو صدرت في وطننا المعروف بثرائه المعرفي الصوفي من قرون خلت مجلة تُعنى بالشأن الصوفي كرافد جديد من روافد المعرفة الانسانية يسمع عبره الوطن صوتاً قوياً في هذا المجال كرسالة حضارية في وطن القادرين على التمام.. أختتم بهذا مرددًا مع الجابري لاخواني هناك: أخت اللوم على نفسي وأرجع أقول أنا الغلطان وربما مع زيدان: تغلطوا انتو يا أحباب نجيكم احنا بالاعذار أو كما قال.