امتحنني الله للمرة الثانية في بضع سنين بوفاة أختي الكبرى بعد وفاة زوجي رحمهما الله.. ولا أدري هل يحق لي ذكر ذلك ليس من باب الاعتراض ولكن من باب الرضاء والامتثال لقضائه، إذ خطفتها يد المنية مساء الاثنين 11/8/4102م البئيس وهي في زهرة ونضاره شبابها، ولاغرو فقد انفطرت قلوبنا وإنا لمحزونون لرحيلها الآسر المبكر، فلقد فارقتنا بعد صراع طويل مع المرض أدمى قلوبنا وأهلك تفكيرنا في كيفية العلاج وهي صابرة محتسبة لم تقنط من رحمة ربها، دائماً مبتسمة لحسن ظنها به، فلقد كانت على يقين بأن ربها سيرحمها برحمته التي وسعت كل البشر. تميزت حميدة- رحمها الله- بروح لافتة وأخاذة وبذكاء مفرط متقد فلقد نشأت كما ذكرجدها بروفيسور، محجوب الحارث في رثائها في بيت له بالذكر دندنة وبالقرآن دوي وبالشعر الرصين ترنم، فجدها الثالث هو الشاعر المفوه والمجاهد المفتي ابراهيم عبد الدافع صاحب منظومة (كاشفة الكروب) الأشهر في الدعاوي، والذي كان أن أريد على ضيم ابي مستنكفاً تقيا كما وجدها السادس الزاهد العابد الفقيه عبد الدافع القنديل رجل الحلفايا الفيحاء الذي كان ذا عزيمة وعود صلب، وهذا وفاء نادر ومايزال ظله قائماً وقبره ظاهراً يزار إذ كان من المتأسين برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يحترس من الناس ويحترز، ولا يطوي بشره لأحد ووالدها بروفيسور ابراهيم محمد ابراهيم رجل التعليم والعلم وأستاذ الاقتصاد المعروف بالجامعات السودانية والمستشار الثقافي السابق في سفارتنا بالقاهرة. كانت فقيدتنا تعمل أستاذه في جامعة المستقبل، فبلغت فيها قدراً وشأناً وشأواً، فلقد كانت مثلاً للانضباط والاحترام والمحافظة على قدسية العمل والعلم، فحظيت بحب واحترام جميع طلابها وزملائها وزميلاتها ورؤسائها الذين ضربوا المثل الأعلى في الوفاء والتقدير والتكاتف والتراحم، قلَّ إن تجده في مؤسساتنا العامة والخاصة. افتقدت حميدة التي اسأل الله أن تكون في حواصل طير خضر مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا كما افتقدها جميع الأهل والأحباب والأصدقاء والجيران، ولكن عزاءنا الوحيد أنها فارقتنا وهي محاطة بحب الجميع وعطفهم واهتمامهم.. وأنها الآن بين يدي رحمن رحيم كريم. مصيبة الموت تذكرنا دائماً بمرارة الحياة وقبحها ووحشتها وخداعها، فنحن عباد مسيرون أقدارنا وآجالنا مكتوبة، ومبتلون حتى نفارق هذه الدنيا الفانية، التي لا تستحق منا كل ذلك التقديس والتبجيل والحب الذي يجرفنا اليها، والذي يجعلنا في سبيلها ننسى ونتناسى أنه في بضع ثوانٍ معدودة يمكن أن نكون في عالم البرزخ وتحت التراب فلا نجاة من الموت ولا راحة في الدنيا. قارئي العزيز من منا لم يطرق الموت بابه، ومن منا لم يفارق عزيز، وتحضرني هنا قصة أصبر بها نفسي كلما زارني الموت عن ذلك الحكيم الذي شعر بدنو أجله فخشي على والدته من تحمل ذلك، لأنها كانت تحبه حباً شديداً، فطلب منها أن تذهب الى مدينتهم وتطرق أبواب منازلها وتطلب من أهلها أن يضعوا لها ديناراً في وعاء كانت تحمله بشرط أن يكون أهل هذا المنزل لم يفارقوا عزيزاً ولم يزرهم ملك الموت، فجابت أنحاء المدينة بحثاً، ولكنها عادت بالوعاء فارغاً فسألها الحكيم عن سبب ذلك فأخبرته أنها لم تجد منزلاً لم يذق طعم الفراق وموت الأحباب، فنظر اليها قائلاً إذا علمتي أن تلك هي سنة الحياة وما من نفس إلا ذائقة الموت بأمر ربها فاصبري واحتسبي.. فإنا لله وإنا اليه راجعون.