طالعت أكثر من مرة إفادات د.التجاني السيسي رئيس حركة التحرير والعدالة - «المستحدثة»- عبر تجميع عدد من الجماعات المنشقة والشخصيات المغتربة لمفاوضات الحكومة حول دارفور في منبر الدوحة-إفادات أدلى بها د. السيسي في مؤتمر صحفي عقده في مقر المفاوضات ونشرت «الصحافة» تلخيصاً وافياً له أمس الأول (السبت)، فكنت أجوس بين السطور بحثاً عن بارقة ضوء أو جواب يحمل على التفاؤل بأن تقدماً قد أحرز عبر تلك اللقاءات والمحادثات التي استهلكت أياماً وشهوراً طويلة، لكن ظني قد خاب، ما حملني لتخصيص هذه «الإضاءة» لإفادات السيد السيسي. فقد أعلن الدكتور السيسي، القيادي السابق في حزب الأمة القومي وحاكم دارفور الكبرى إبان فترة الديمقراطية الثالثة، أعلن بلغة الرياضة أن مفاوضات الدوحة بين حركته والحكومة «دخلت الآن شوط المباراة الأخير وسنسلم الراية إلى الوساطة العربية-الإفريقية- الدولية، لتضع وثيقة شاملة، وقال إن ما تم إنجازه «عمل كبير، واتفقنا على قضايا كثيرة، والمفاوضات تسير سيراً حسناً بشهادة المراقبين». الوساطة العربية الأفريقية الدولية، بحسب التصوير الرياضي للدكتور السيسي تمثل «الحكام الثلاثة» في كرة القدم، حكم الميدان ورجلي الخط، والمراقبون هنا ربما يمثلون «الحكم الرابع ومندوبي الفيفا»، وهذا التصوير في حد ذاته يعطي إيحاءاً قوياً بأن «المباراة ودية» حتى بعد «دخولها الشوط الأخير»! دعونا الآن ندخل إلى تفاصيل إفادات السيسي وما لخصهُ ب«الاتفاق على قضايا كثيرة والسير الحسن للمفاوضات بشهادة المراقبين» فقد ذكر السيسي بعد هذه الجملة التطمينية المتفائلة والمجاملة أن «القضايا الخلافية العالقة بين الوفدين أحيلت إلى لجنة الاتفاقية وحل النزاعات ابتداءً من أمس الأول لحسم (بعض) القضايا لمدة أسبوع، وفي حال عدم حسمها داخل اللجنة ستحال إلى الوساطة لتقدم حلاً وسطاً» ثم دلف من بعد إلى تعداد وتسمية تلك القضايا «الخلافية العالقة»، فقال: إن موضوع «الإقليم الواحد» -أو الولايات المتعددة وفق رغبة الحكومة- يأتي في صدارة تلك القضايا العالقة، وإن الحركة تتمسك بأن تكون دارفور إقليماً واحداً، ووصف الخلاف على ذلك بأنه «أكبر مشكلة لم تحسم في المفاوضات، وبأنها القضية التي يمكن أن تُنجح المحادثات أو تُفشلها»! وانتقل السيسي بعد ذلك ليتحدث عن «ملف السلطة» فماذا قال؟ أوضح أنه تم الاتفاق بشأن تقاسم السلطة على تمثيل أهل دارفور ومشاركتهم في الحكم «بنسبة السكان» -معتبراً ذلك إنجازاً حققته المفاوضات، لكنك عندما «تكمل الجملة» إلى آخرها تفاجأ على الفور بأن ذلك «مجرد كلام» وأن المعضلة والخلاف الحقيقي يكمن في باقي الإفادة، إذ قال: «إن هناك قضايا كثيرة في إطار المشاركة في الحكم في مستوياته المختلفة لم تحسم بعد». ثم تحرك السيسي ليتناول قسمة الثروة والتعويضات، وأبلغ مستمعيه من الصحافيين «أن القضايا الخلافية تشمل أيضاً صناديق اقترحناها في شأن اللاجئين والنازحين وفي إطار لجنة العدالة والمصالحات، وتتعلق بالتعويضات وجبر الضرر والديات» وأكد أن أكثر القضايا الخلافية «تتعلق بالمال، وأن الحكومة لم تقرر حتى الآن المبلغ الذي ستدفعه لإعمار دارفور وغيرها من القضايا المرتبطة بهذا الملف». ومع ذلك شدد د. السيسي على «إصرار حركة التحرير والعدالة على التوصل إلى اتفاق سلام شامل وعادل يقفل الباب -كما قال- على الذين يودون المتاجرة بقضية دارفور وعلى المغامرين والمزايدات وأية محاولة لإطالة أمد النزاع. سلام يكون مقنعاً للسواد الأعظم من جماهير دارفور» مضيفاً أنهم يعطون الفرصة للوساطة لتأتي بوثيقة سلام عادلة وشاملة، ولا يمانعون أن تأخذ الوساطة في الاعتبار الاتفاقات الإطارية التي وُقعت، وبينها اتفاق الحكومة مع حركة العدل والمساواة - المنسحبة من المفاوضات- إضافة إلى توصيات مؤتمرات عقدت في وقت سابق لتعرض على الحركات الدارفورية المتمردة التي لم تلتحق بمنبر الدوحة، ودعا في ختام حديثه «تلك الحركات» إلى العودة للمنبر التفاوضي في قطر. هكذا إذن تكلم السيسي، اتفقوا مع الوفد الحكومي على «قضايا كثيرة»، لم يقل ما هي، وما صلتها بأصل الخلاف و«جذور النزاع» -بتعبير الناشطين الدارفوريين- وبجردة بسيطة للمطالب الدارفورية المعلنة، والمتمثلة في: الإقليم الواحد، قسمة الثروة والسلطة، والتعويضات الجماعية والفردية، والأمن وإعادة الإعمار، والتي عددها السيسي واحدة بعد أخرى -ما عدا مسألة الأمن- وأكد على وجود خلافات حولها جميعاً، وظلت «عالقة» وأحيلت للوساطة للبحث عن «حلول وسطى» فيها جميعاً في (ظرف أسبوع واحد) بعد مفاوضات استهلكت كل هذه الشهور -على حساب الوسيط القطري المشكور- الذي ظل يدفع نفقات المئات من أعضاء الوفود المقيمين بشكل دائم في فنادق الخمس نجوم يأكلون ويشربون ويقبضون النثريات اليومية و«يغسلون ويكوون» وهم «في آخر بسط» كما تشي أحوالهم، كما أبلغني صديق عزيز مقيم بقطر زار البلاد مؤخراً، وبينهم من لم ير دارفور منذ اندلاع الأزمة وأصبح «ناشطاً ومقاتلاً دارفورياً من بره لي بره» وربما كان السيد الدكتور السيسي رئيس الحركة «المستحدثة» أحد هؤلاء، فلذلك لا غرابة أن يتحدث عن أنه تم «الاتفاق على الكثير من القضايا المهمة»، لكن عندما تدخل إلى تفاصيل أقواله تكتشف على الفور أنه لم يتم الاتفاق على شيء، وأن الأمر برمته قد أحيل ل(الوساطة) لعلها «تنجز في أسبوع» ما عجز عن إنجازه المتفاوضون لشهور عديدة. ومع ذلك «يتنبّر» الدكتور السيسي ويقول إن حركته مُصرة على التوصل إلى سلام عادل وشامل يقفل الباب على الذين يودون المتاجرة بقضية دارفور وعلى «المغامرين والمزايدين» ومع ذلك أيضاً لا يرى حرجاً في التحاقهم بمفاوضات الدوحة في هذا «الأسبوع الأخير» الذي حدده للوساطة لإنجاز وثيقة السلام العادل والشامل، فهو يدعوهم ربما لحضور «حفل التوقيع» وتهنئته بالإنجاز!.