تشكل ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال التي يخلدها الشعب المغربي يوم 11 يناير من كل سنة محطة بارزة في مسار الكفاح الوطني، يحق لكل المغاربة الإعتزاز بحمولتها الوطنية ورمزيتها التاريخية الخالدة. فهذه الذكرى تعتبر من أغلى وأعز الذكريات المجيدة في سجل الكفاح الوطني المغربي من أجل الحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية والسيادة الوطنية، ذالك أنها جسدت معاني ودلالات سامية تتمثلت أساسا في سمو الوعي الوطني وقوة التحام العرش بالشعب دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية والمقومات التاريخية والحضارية للمملكة المغربية. فهي ذكرى الحدث التاريخي البارز والراسخ في ذاكرة كل المغاربة المتمثل في تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944 في سنتها الواحدة والسبعين التي يحتفي بها المغاربة وفاء وبرورا بنساء ورجال الحركة الوطنية، وتمجيدا للبطولات العظيمة التي صنعها أبناء المغرب بروح وطنية عالية وإيمان صادق وواثق بعدالة قضيتهم في تحرير الوطن، مضحين بالغالي والنفيس في سبيل الانعتاق من نير الاستعمار وصون العزة والكرامة. لقد وقف المغرب عبر تاريخه العريق بعزم وإصرار وتحد في مواجهة أطماع الطامعين مدافعا عن وجوده ومقوماته وهويته ووحدته، ولم يدخر جهدا في سبيل صيانة وحدته وتحمل جسيم التضحيات في مواجهة المستعمر الذي جثم بكل قواه على التراب الوطني منذ بدايات القرن الماضي، فقسم البلاد إلى مناطق نفوذ توزعتها الحماية الفرنسية بوسط المغرب والحماية الإسبانية بالشمال والجنوب (الأقاليم الصحراوية المغربية)، فيما خضعت منطقة طنجة لنظام حكم دولي. وقد جعل هذا الوضع المتسم بالتجزئة والتفتيت للتراب المغربي، مهام التحرير الوطني صعبة وعسيرة بذل الملك محمد الخامس والشعب، في سبيلها أجل التضحيات في سياق كفاح متواصل طويل الأمد ومتعدد الأشكال والصيغ لتحقيق الحرية والخلاص من ربقة الاستعمار المتعدد والمتحالف. وهكذا اندلعت معارك ضارية بجبال الأطلس والريف والصحراء المغربية وبمختلف جهات المغرب، إذ قادت القبائل الأمازيغية والعربية والحسانية معارك مع الوجود الاستعماري، حالت دون توسعه وتمدده، كمعارك «سيدي بوعثمان» في «6 سبتمبر» سبتمبر 1912 (بقيادة أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين) و»الهري» بالأطلس المتوسط سنة 1914 ومعارك أنوال الخالدة بجبال الريف سنة 1921 ومعارك أبوغافر بمنطقة ورزازات ومعارك جبل بادو بمنطقة الرشيدية «الجنوب الشرقي» سنة 1933 إلى غيرها من الانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال الذي لم يستطع السيطرة على المغرب بشكل كامل إلا في العام 1934. وانطلاقا من مستهل الثلاثينات دخل النضال المغربي مرحلة المقاومة السياسية وخصوصا بعد صدور الظهير البربري سنة 1930 الذي قسم المغاربة بين عرب وبربر، لتبدأ بذلك مبادرات النضال السياسي استمرارا لمراحل الكفاح المسلح، وأخذت الملاحم الوطنية تتخذ صيغا وأبعادا سياسية جديدة تمثلت في منعطفات حاسمة في مسار النضال كانت تتخلله مظاهرات وانتفاضات دامية. وتواصلت مسيرة الكفاح الوطني بقيادة محمد الخامس على رغم السياسة القمعية الاستعمارية، إذ اغتنم انعقاد مؤتمر آنفا «الدار البيضاء» في شهر يناير 1943 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بأشهر لطرح قضية استقلال المغرب وإنهاء الحماية، مذكرا بالجهود التي بذلها المغرب من أجل تحرير أوروبا، وهذا ما أيده الرئيس الأميركي آنذاك فرانكلين روزفلت ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل اللذان حضرا المؤتمر. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي ساهم فيها المقاتلون المغاربة الذين تم على أيديهم تحرير المناطق الجبلية من إيطاليا ومناطق واسعة من فرنسا الخاضعة للاحتلال الألماني «ولحكومة فيشي العميلة التي نصبها هتلر في باريس»، تغيرت مضامين المطالب المغربية إذ انتقلت من المطالبة بالإصلاحات السياسية والديمقراطية وتوسيع مشاركة المغاربة في تسيير شئونهم في ظل الحماية الفرنسية والإسبانية، إلى المطالبة بالاستقلال. وكان لهذا الانتقال انعكاسات على مسار العلاقات بين سلطات الحماية من جهة والحركة الوطنية التي كانت ممثلة في حزب الشورى والاستقلال، وحزب الاستقلال، بالإضافة إلى القصر الملكي من جهة ثانية. وشهدت مرحلة ما بعد الحرب تكثيف الاتصالات بين القصر الملكي وطلائع المناضلين الوطنيين لتنبثق عنها مبادرة تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، بإيعاز من الملك الراحل محمد الخامس، إذ شرع الوطنيون في تحضير الوثيقة وإعدادها، وكان بينهم سيدة هي مليكة الفاسي، والتي تم تقديمها بعد تبادل التشاور بين الملك والوطنيين. وبعد أن تم التأكد من أنها تمثل مختلف مناطق المملكة إلى الإقامة العامة الفرنسية، كما سلمت نسخ منها إلى ممثلية أميركا وبريطانيا، بالإضافة إلى إرسال نسخة إلى قنصلية الاتحاد السوفياتي أنذاك. وتضمنت هذه الوثيقة التاريخية في ديباجتها الحافلة بالمواقف الوطنية الراسخة جملة من المطالب تتعلق ب»استقلال المغرب تحت ظل ملك البلاد المفدى سيدي محمد بن يوسف والسعي لدى الدول التي يهمها الأمر لضمان هذا الاستقلال وانضمام المغرب للدول الموافقة على وثيقة الأطلنطي والمشاركة في مؤتمر الصلح فيما يرجع للسياسة الداخلية». كما تضمنت «الرعاية الملكية لحركة الإصلاح وإحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية والإسلامية بالشرق، تحفظ فيه حقوق وواجبات جميع عناصر الشعب المغربي». وكان لحدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال الأثر العميق في أوساط المغاربة، إذ تعزز بعرائض التأييد من مختلف جهات المملكة، كما كان من آثاره اندلاع انتفاضة يوم 29 يناير 1944 وما رافقها من مظاهرات عارمة سقط على إثرها عشرات الشهداء والضحايا بالرباط وسلا وفاس وأزرو وغيرها من المدن المغربية. وقاد وقوف محمد بن يوسف إلى جانب المقاومة وانخراطه فيها، إلى المنفى، إذ عزلته سلطات الحماية الفرنسية، في 20 غشت 1953، عن العرش، ونفته إلى جزيرة مدغشقر، ما أدى إلى اندلاع «ثورة الملك والشعب»، التي عجلت بالاستقلال، عندما اضطرت فرنسا إلى إرجاع السلطان إلى بلده وإلى شعبه وعرشه، في 18 نونبر 1955، معلنا «انتهاء عهد الحجر والحماية، وبزوغ شمس الحرية والاستقلال، وانتهاء الجهاد الأصغر وبداية الجهاد الأكبر» لقد كانت وثيقة المطالبة بالاستقلال في سياقها التاريخي والظرفية التي صدرت فيها، ثورة وطنية بكل المعاني والمقاييس جسدت وعكست وعي المغاربة ونضجهم وأعطت الدليل والبرهان على قدرتهم وإرادتهم للدفاع عن حقوقهم المشروعة وتقرير مصيرهم وتدبير شؤونهم بأنفسهم وعدم رضوخهم للنفوذ الأجنبي والإصرار على مواصلة مسيرة النضال التي تواصلت فصولها بعزم وحزم في مواجهته والتصدي له إلى أن تحقق النصر المبين بفضل الإرادة الصلبة للعرش والشعب.