*خلال زيارتي الأخيرة للبحرين أهداني إبننا حسين كمال عثمان من مكتبته العامرة سفرين عظيمين أحدهما «نهج البلاغة» للإمام علي كرم الله وجهه في طبعة جديدة وأنيقة أعيد تبويبها وتنسيقها وضبط كلماتها ووضعت في غلاف يليق بمكانة الأثر، والآخر بحث عميق واستقصائي تحت عنوان رئيس «الغزالي والاسماعيليون» وآخر رديف شارح هو «العقل والسلطة في اسلام العصر الوسيط».. للباحث فاروق ميثا الأستاذ بجامعة فيكتوريا الكندية نقله الى العربية سيف الدين القصير.. والكتابان صادران في لبنان، الأول عن «المكتبة العصرية» والثاني عن «دار الساقي».. أما حسين فهو لا يزال طالباً يدرس القانون في عامه الأخير بجامعة درام بالمملكة المتحدة وهو مشروع مثقف موسوعي كبير فترقبوه.. سأحدثكم عنه بالتفصيل في مقبل الأيام بمشيئة الله. *طبعة «نهج البلاغة» التي بين يدي قدم لها شيخ الأزهر التاريخي والأشهر الامام محمد عبده، واستوقفني مدخله الى التقديم بمفاجأة لا يتحسب لها كل من عرف أو سمع عن الشيخ محمد عبده رفيق جمال الدين الأفغاني وصديقه.. مفاجأة يقول فيها أنه وقَعَ على نهج البلاغة صدفة.. فتصفحه ففوجئ هو الآخر بما حواه من مادة غزيرة في علوم الدين واللغة فقرر أن يقوم على كتابة تلك المقدمة.. أقرأه يقول: *أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب «نهج البلاغة» مصادفة بلا تعمل- يعني بلا قصد أو تعمُّد- أصبته على تغير حال وتبلبل بال- ربما أيام محنته مع شيوخ الأزهر المتزمتين والدولة الخديوية- وتزاحمُ اشغال وعطلة من أعمال فحسبته تسلية وحيلة للتخلية.. فتصفحت بعض صفحاته وتأملت جملاً من عباراته من مواضع مختلفات.. فكان يُخيّل الي في كل مقام أن حروباً شبت وغارات شُنّت وأن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة.. الى أن يقول: تفلُّ من دعارة الوساوس وتصيب مقاتل الخوانس.. والباطل مُنكسر ومرج الشك في خمود وهرم الريب في ركود.. وان مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. *ويصف محمد عبده- رحمه الله- حاله مع «النهج» بقوله: بل كنت كلما انتقلت من موضع الى موضع أحس بتغير المشاهد وتحول المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية وتدنو من القلوب الصافية.. وتارة تتكشف لي الجُمل عن وجوه باسرة- يقصد عابسة- وأنياب كاشرة، وأرواح في أشباح النمور ومخالب النسور قد تحفزت للوثوب واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.. وأحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً فُصل عن الموكب الالهي، واتصل بالروح الانساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به الى الملكوت الأعلى، ونما به الى مشهد النور الأجلي.. وآنات- يعني مرات- كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة وأولياء أمر الأمة، يُعرفهم مواقع الصواب ويُبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب ويرشدهم الى دِقاق السياسة ويهديهم طرق الكياسة.. ويقعدهم الى شرف التدبير ويشرف بهم على حسن المصير. *ثم يتنقل محمد عبده للحديث عن جامع الكتاب ومُصنفه السيد الشريف الرضي الذي اختار له عنوانه «نهج البلاغة» ويشكر له فعله واحسانه، خصوصاً وهو لم «يترك غرضاً من أغراض الكلام الا أسابه، ولم يدع للفكر ممراً الى جابه» وأوضح الشيخ وهو يقدم الكتاب ان دوره سيقتصر على الشرح اللغوي لغريب الكلام في «نهج البلاغة» والتعليق على مفرداته شرحاً وبعض جمله تفسيراً وشئ من أشاته تعييناً، واقفاً على حد الحاجة مما قصدت».. ثم ذكر عن نسب الشريف الرضي موجزاً من القول وطرفا من خبره.. فهو من ابيه ابو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى (الكاظم) بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم آل البيت.. كما ينتهي نسب أمه كذلك الى الدوحة النبوية الشريفة عند الحسين بن علي بن أبي طالب. *أما ما لفت نظري وأنا أطالع مقدمة الشريف الرضي- رحمه الله- هو النهج العلمي- أو الأكاديمي بلغة العصر- في البحث والجمع والتوثيق والمقارنة وافساح المجال أمام الشك في «دقة النصوص» دونما قطع أو يقين غافل.. مع ادراك تام لمشقة التوثيق والوثوق خصوصاً في المنقولات والروايات الشفاهية فكان عليه بعد الجمع أن يقوم بعمل إضافي لترجيح رواية على أخرى أو كلمة على غيرها، ربما استناداً الى لغة الامام ونهجه في المخطوطات والرسائل المكتوبة فاسمعه يقول: «والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافاً شديداً فربما اختلف الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً في غير موضعه الأول إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة.. وربما بُعد العهد أيضاً مما اختير أولاً، فأعيد بعضه سهواً أو نسياناً لا قصداً واعتماداً ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام» *فالشريف الرضي قد جمع «نهج البلاغة» في أواخر القرن الرابع الهجري وتعرفنا سيرته أنه تولى نقابة الاشراف «الطالبيين»، نسبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة هجرية. *في الحلقة القادمة نطرز مساحة «الإضاءات ببعض بديع كلامه وحِكَمِه الزواهر في نهجه البليغ الذي ليس هو إلا كما قال عنه حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعليٌ بابها. }}