عندما سألوا الفنانة المصرية فردوس عبد الحميد عن مساهمتها في تقريب السودان ومصر،أجابت بذكاء أنهم بصدد تحويل رواية(الشمندورة) إلى فلم تلفزيوني لمؤلفها الكاتب النوبي محمد خليل قاسم. هذه الرواية التي تحولت عام 1968م إلى مسلسل إذاعي نعتبرها أروع رواية وثقت حياة المجتمع النوبي ، تحكي قصة المآسي التي وقعت في قرية نوبية فقيرة وادعة في النوبة المصرية عندما هبط عليها طوفان بسبب قفل خزان أسوان بعد تعلية جديدة عام 1933م. *** سردنا سابقاً كيف سقطت القرى النوبية الواحدة تلو الأخرى مع التعليات الثلاث، ونقلنا صورة عن الخلفية السياسية للمؤلف،وسردنا أيضاً أن الشمندورة كانت من علامات النيل على شكل برميل أحمر كان يقاوم الأمواج ليل نهار، اتخذه المؤلف هنا رمزًا للوجدان النوبي الممزق بين مصروالسودان ! *** عقب انتهاء مراسيم زواج أخته زار الطفل (الراوي) مقام الشيخ شبيكة وعاد من هناك بعد أن قص ضفيرته وحقق نذره !! وجد أهل القرية في الساحات والمساطب والمتاجر، وقد تحلقوا في منتديات يناقشون القرار رقم (6) لسنة 1933م. يقضي هذا القرار الحكومي بنزع الملكية نزعاً كاملاً في المناطق المتأثرة بالطوفان جنوب خزان أسوان. إلا في بعض القرى النوبية في أقصى الجنوب مثل: توماس، توشكي، أبو سنبل بلانة. باعتبار أن هذه القرى المتاخمة للحدود السودانية أقل تأثراً. وفي القرار أيضاً على الأهالي في القرى المتأثرة أن يرحلوا إلى أي جهة يريدون.!! من مفارقات مواقف الأهالي منهم من اختار السودان باعتبار أن أهله طيبون والأراضي واسعة هناك وليست هناك مشكلة لون كما هو الحال في المجتمع المصري! من خلال الخوض في مثل هذه المواضيع دس المؤلف موقفاً يقلل من آثار مشكلة الاضطهاد هذه. فيقول: إنهم في المقابل كانوا يرشقون أحد المصريين(البِّيض) بالحجارة وهم يهتفون خلفه(الأحمر أهو). صورت الرواية أهل القرية بأنهم كانوا لا يملكون أمام الطوفان القادم سوى العرائض والشكاوي. وقد كان الزعيم الشاب (برعي) أبرز قادة المقاومة، وهو كما ترجمنا له من قبل كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن يعرف الكثير عن الطوفان القادم، ولكنه كان الضمير الحي لمجتمع مغلوب على أمره. أحد المثقفين من الشباب النوبي كان يسخر من هذه الشكاوى والالتماسات باعتبارها عملاً بلا جدوى، ووصف النوبيين بأنهم بلهاء وحينما سئل: ماذا تريد منا أن نفعل يا حسين؟ نصحهم بقتل رئيس الوزراء صدقي باشا، وقد قام بالفعل بهذه المحاولة ولكن قبض عليه، وترك في السجن يعمل أشغالاً شاقة حتى مات! بعد إطلاق سراح المعارضين الذين اعتقلتهم الحكومة المصرية، اقتنع أهل القرية بالأمر الواقع. إغراءات: بعد أن أصبحت فكرة التهجيرأمراً واقعاً، بدأ أهل القرية يتناقشون في أمر التعويضات، ورغم أنهم اتفقوا جمعياً على مقاومة التعويضات التي لم تكن مجزية، إلا أن حلفهم إنهار في نهاية المطاف لسببين: -الوافدون الغرباء الذين باعوا للحكومة وبسبب الفقر. استيقظت القرية على المنادي يطوف على النجوع فقد وصلت أموال التعويضات في خزانة حديدية محروسة ببنادق! بريق الجنيهات الخضراء بدأ يخطف أبصار الفقراء الذين يعانون الجراد وسوء المحصول. وانخفاض أسعار البلح. بدءوا يتوصلون لحقيقة أن التعويضات ضعيفة، وغير مجزية، ولكن ما باليد حيلة. من كانوا يعارضون فكرة قبول التعويض بدءوا الآن يطالبون بتعويضات عادلة. أما حكومة صدقي باشا عندما علمت أشواق هؤلاء الفقراء لهذه الأوراق النقدية، عدلت التعويضات إلى الربع. الأفندية وطبقة المثقفين الذين كانوا يطالبون بالصبر على المقاومة أصبحوا الآن في مأزق لأن الأوراق الخضراء أصبحت في متناول يد الفقراء. يخرج من بينهم من يخاطب الفقراء عبثاً بقوله: «أعرف أن الجوع كافر ولكن في إمكاننا أن نصبر أياماً» وعندما كادت أن تنهار صفوف المقاومة وضعوا مصحفاً كبيراً، ركزوا أكفهم عليه، وقرءوا الفاتحة، وأقسموا أن لا يصرفوا إلا معاً !! قبل أن يحنثوا بهذا القسم وتنهار المقاطعة على يد (جزار).. ولم يكن من أبناء القرية الأصلاء - أطلقت الرواية صرخة داوية على لسان امرأة فقيرة لا عائل لها، وهي دارية سكينة. كانت أول من مدت يدها لهذه الأموال المحرمة. وعندما سألوها: كيف تصرفين والناس جميعاً لم يصرفوا يا وليه؟ صرخت صرختها الداوية«أنا جائعة..جائعة والديون تتراكم على رأسي». بدأ الناس يتقاطرون على دار العمدة لصرف تعويضاتهم.أما قادة المعارضة فقد بدأ بعضهم يغرقون أحزانهم في الخمر والبعض الآخر يطمئن نفسه بأنه فعل ما عليه وكفى!! من غرائب تجليات الخصوصية النوبية على مؤلف الرواية أو قوة صدقه مع ذاته، أنه وهو مستغرق في تصوير أحداث (التعويضات) هذه نسي ولائه السياسي! تجلى هذا الموقف بوضوح حينما جعل السبب الأول للانهيارهو(عدم الانتماء) فقد بدأ الانهيار أول ما بدأ على يد (الجزار) وهو من الغرباء على المجتمع ،فقد كان من الوافدين. ثم بعد ذلك أشارإلى أسباب الفقر، عندما صور موقف دارية سكينة. وهناك(عمدة) القرية الذي قدمه المؤلف باحترام بالغ، بأن جعله يتبنى مطالب الجماهير أكثر من مصالحه الخاصة. ثم صوره في غياب دائم عن القرية حلاً للمأزق الذي كان لا مفر منه، إذا تركه بين الناس في تلك المعارك!! ونواصل في الحلقة القادمة لنحكي كيف تهدمت القرية!!