كل من تقابله هذه الأيام يخبرك بأن قلبه يحدثه بأن أمراً جللاً سوف يحدث، وذلك قياساً على تقلبات الأجواء المناخية والسياسية التي تحدث الآن وسط تدخلات دولية واقليمية غير عادية ومريبة، وتزامن تصعيدات في جبهات القتال وتحركات زعيم المحاميد موسى هلال وتجميعه لقبائل وقوى دارفورية أخرى تحت اسم مجلس الصحوة، وتهديداته بمقاومة الانتخابات وزيادة مطالبه لتشمل حل مشكلة السودان كله، لذلك وبعد الإرتفاع الى أجواء عالية من المخاطر التي تهدد الجميع وتهدد وجود السودان، أرى أن الهبوط الى واقع وارتفاع آمن أو خطر أمر حتمي عبر واحد من سيناريوين- إما هبوط ناعم أو هبوط خشن الهبوط الناعم هو اللفظ الذي استحدثه الإمام الصادق المهدي وهو الهبوط المتدرج عبر الحوار بعيداً عن السلاح ويؤيده المجتمع الدولي والاقليمي الذي يمارس ضغوطاً كبيرة على قطاع الشمال خاصة بعد مؤتمر برلين الأخير. الهبوط الناعم المقصود يتمثل في: أولاً:وقف كل الحروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق عبر المفاوضات. مفاوضات مع الحركة الشعبية في أديس والإمتثال الى القرار 2046 الذي يحدد الإتفاقية الاطارية بين د. نافع وعقار كمرجعية وفي هذه الاتفاقية الوقف الفوري للحروبات في النيل الأزرق وجنوب كردفان وفيها حل الفرقتين 9 و10 من الجيش الشعبي ودمج أفرادهما في القوات النظامية القومية مقابل السماح لقطاع الشمال في الحركة الشعبية بتكوين حزب سياسي يتمتع بكل حقوق وواجبات قوانين الأحزاب والانتخابات. المفاوضات الثانية مع حركات دارفور المسلحة غير الموقعة على اتفاقات الدوحة ونقطة الخلاف الحالية إصرار الحكومة على عدم خلق منبر آخر غير الدوحة والذي انتهت مخرجاته باتفاقات الدوحة التي أعادت عدداً من الحركات المسلحة الى السودان وانخراطها في العمل السياسي، والحركات المسلحة تصر على منبر جديد ما عدا حركة تحرير السودان (عبد الواحد) التي ترفض الجلوس مع المؤتمر الوطني تماماً وتطالب بإزالته من حكم السودان. ثانياً: فترة انتقالية سنتين أو ثلاث تحكم فيها البلاد برئاسة البشير ومجلس وزراء قومي يضم كل أحزاب المعارضة والحركات المسلحة والمؤتمر الوطني. ثالثاً: إلغاء كل القوانين الاستثنائية وبسط الحريات وتحقيق العدل والمساواة. رابعاً: يجري في الفترة الانتقالية حوار جامع يفضي الى إقرار دستور دائم يؤمن على الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. خامساً: فك عزلة السودان وإعادة العلاقات الخارجية الطيبة مع العالم، وبصفة خاصة دول الخليج، الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، مصر، ودولة جنوب السودان. هذا ملخص غير مخل بفكرة الهبوط الناعم والذي إن حدث يجنب البلاد كارثة الفوضى الخلاقة وانعدام الأمن وتفكك السودان الى شظايا يستحيل جمعها مرة أخرى، ولكن وبكل جمال هذا الهبوط الناعم إلا أنه مواجه بصعوبات عديدة قبل الوصول اليه.. والصعوبات المحتملة تأتي من تخوف قطاع الشمال من التفريط في قوته الأساسية العسكرية بحلها ودمجها في القوات النظامية متلازماً مع تخوف المؤتمر الوطني من تكوين حزب للحركة الشعبية قد يستوعب ويجذب أعداداً هائلة من الناشطين والجالسين على الرصيف غير المؤمنين بالأحزاب الطائفية التقليدية، وهم كما أشرنا في المقال السابق بالملايين من الشباب النشط الحائر، وخوف المؤتمر الوطني وبصفة خاصة الحركة الاسلامية من أن يبدأ حزب الحركة الشعبية صغيراً مثل كرة الجليد تزداد حجماً كلما انداحت في المجتمع السوداني في كل أقاليمه.. الصعوبة الثانية تأتي من أحزاب قوى الإجماع الوطني والتي سوف تتخطاها كل الترتيبات التي يعمل لها مهندسو الهبوط الناعم المحليين والدوليين مثلما حدث في اتفاقات نيفاشا التي أدت الى انفراد المؤتمر الوطني بالسلطة في الشمال والحركة الشعبية في الجنوب.. الصعوبة الثالثة للهبوط الناعم تأتي من تباعد المواقف بين الحكومة في التمسك باتفاقات الدوحة وعدم خلق منبر جديد وبين حركات دارفور في الاتفاق في منبر جديد بأجندة جديدة.. كل ذلك في ظل البعد الجديد المتصاعد في دارفور بارتفاع وتائر الصراعات القبلية الدامية وزيادة القيادات الدارفورية الجديدة المطالبة بالمشاركة الفعالة في الحكم الاتحادي والاقليمي. كان هذا السيناريو الأول وهو الهبوط الناعم.. والسيناريو الثاني الهبوط الخشن الاضطراري وهو هبوط بكل المقاييس غير محبب، وهو الهبوط الاضطراري السريع عندما تتفاقم وتتسارع الزوابع الرعدية بسبب استمرار الحروب في المناطق الثلاث، وامتددها الى مناطق أخرى في السودان وبعدها يتحول السودان مثل جيرانه في المنطقة العربية الى مرحلة الفوضى الخلاقة المخطط لها، والتي سوف يتبعها فوراً الهبوط الاضطراري بواسطة تدخل قوى خارجية أو داخلية لفرض واقع جديد في السودان مثلما حدث في العراق ومصر. السيناريو الأمثل الذي يحفظ السودان هو الهبوط الناعم المعدل على النحو التالي: أولاً: التأمين على حل المعضلة السودانية بالتفاوض ورفض الحرب كحل للمشكلة. ثانياً: الإعتراف بوجود قوتين شبه متساويتين في السودان كل تحمل فكراً لا يتفق مع الآخر، مجموعة الفكر والحكم الاسلامي، ومجموعة الفكر والحكم المدني والاعتراف بإمكانية وجود القوتين في السودان تحكم واحدة وتعارض الأخرى، في منظومة برلمانية ديمقراطية تقر التداول السلمي للسلطة، وهذا يتطلب التحرك الايجابي في المواقف كما فعل الشيخ راشد الغنوشي بنجاح كبير في تونس، خرج بها الى بر الأمان بعيداً عن فوضى الربيع العربي الدائرة حتى الآن في تلك الدول. ثالثاً: الجلوس في مفاوضات مع قطاع الشمال والموافقة على إعادة الاتفاقية الاطارية التي وقعها د. نافع ومالك عقار في 28/6/2011م في أديس وفيها الحل الكامل لمشكلة جنوب كردفان والنيل الأزرق. رابعاً: الجلوس مع حركات دارفور غير الموقعة في منبر جديد لكن بمرجعية اتفاقات الدوحة، والسماح بتعديل أو حذف أو إضافة غير مؤثرة على جوهر الاتفاقية وفي هذا كسر لجمود التمترس في المواقف ونقطة وسطى للالتقاء- الحركات المسلحة تكسب نقطة ايجاد منبر جديد والحكومة تكسب نقطة باعتماد اتفاقات الدوحة كمرجعية في المنبر الجديد. خامساً: يستبق الرئيس المفاوضات بإعلان إعادة هيكلة حكم السودان في ثمانية أقاليم هي دارفور، كردفان، جنوب كردفان، الشرق، الشمال، الأوسط، النيل الأزرق والخرطوم، وهذا التقسيم يحل جزءاً كبيراً من مطالب حركات دارفور ويتوافق مع اتفاق نيفاشا في ما يتعلق بالمشورة الشعبية وخصوصية الحكم الاقليمي في جنوب كردفان والنيل الأزرق، ويحل أيضاً جزءاً كبيراً من مطالب قطاع الشمال ومواطني المنطقتين . سادساً: الاتفاق على فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات برئاسة المشير البشير بعد أن يتنازل عن عضوية المؤتمر الوطني ليصبح رئيساً لكل السودانيين. سابعاً تكوين حكومة انتقالية برئاسة شخصية قومية متفق عليها تشرف على حوار يفضي الى دستور دائم ديمقراطي تعقبه انتخابات عامة ويكون تكوين الحكومة من شخصيات متخصصة (تكنقراط) تؤمن المواطنين في مسكنهم ومأكلهم ومشربهم وتوفر لهم الخدمات الضرورية الأساسية بأسعار في مقدور الجميع. ثامناً: تفادياً لأية حساسية قبلية يكون حكام الأقاليم الثمانية من العسكريين المشهود لهم بقوة الشخصية والنزاهة والاستقامة، يعمل كل منهم كأولوية قصوى على بسط الأمن وسلامة المواطنين والحفاظ على أرواحهم. تاسعاً: تعمل الحكومة على إعادة العلاقات الطيبة مع دولة جنوب السودان، ومصر، ودول الخليج خاصة السعودية، والمجتمع الدولي خاصة أمريكا، انجلترا، المانيا وفرنسا. والله الموفق.