لا زلت استمع إلى كثير من المرشحين عبر قنوات التلفزيون، وهم يعرفون لأنفسهم بأنفسهم ويتحدثون بما يزكيها، وما ينوون ويريدون فعله، وكل واحد منهم يتمثل قول الشاعر: سأمحو بذكري ذكر من مضى.. فلا زيد يقال ولا عمرو وأرجو الله لهم جميعاً التوفيق، ولكن خوفي الأكبر على الوطن الذي يحتاج مرشحاً موشحاً بتقوى الله، جهوراً وقوراً، بسببه لا بنسبه، وبفعاله لا بأقواله، إذا صمت سمعوه، وإذا نطق أطاعوه، وطنياً لا مصلحياً، إذا قال فعل، والكل عنده أهل، شافعاً للجميع، نافعاً للوجيع، رافعاً للوضيع، بحلمه وعلمه وسلمه، حضاراً لا غيّاب، ستاراً لا عيّاب، سيرته مدروسة، معلومة محسوسة، حمّال أمانة، كرّاه خيانة، ملازماً للحق بتقواه، مجانفاً مخالفاً لهواه، حتى نطمئن على وطننا، ونضمن سلامته من كيد الكائدين، وما يقوله المرشحون أكثرهم قد زاد عليه قوم من قبلهم ولكن نسوا ما قالوا بدخولهم البرلمانات، واشتغل أكثرهم بأنفسهم، وأعطوا ظهورهم للذين التزموا بخدماتهم، سواء كان في شربة ماء أو كبسولة لداء، وقد تمنيت وأنا استمع لهم أن تعرف المرشح أفعاله لا أقواله، وأن تزكيه دائرته لا يزكي نفسه، فاليد الطولى لا تخفى سيرتها، والأعمال الجليلة لا تنسى ذكرتها، والأخلاق الكريمة لا تجهل مكانتها، والمواطن السوداني ما عاد كما كان، فقد ازداد معرفة على معرفته وصحوة على صحوته، فبهرجة الحديث وأرانيش التلميع ما عادت جاذبة لرأيه، ولا مقنعة لضلاله، فقد عرف مكان مصلحته وصلاح معيشته، فصوته سلاح، إما به نصر ونال رضا الله وضميره، وإما به هزم ولاقى غضب الله وشقاء شقيقه، فالذي يستحق لا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى تعريف، فهو واضح كالقمر في سمائه، فإن نصره، فقد أطعم بصوته وأسقى وحمى وطنه، وإذا تبع انفعالاته ومجاملاته وأخفى عقله وطغت عاطفته، أجاع وأظمأ وشتت شمل وطنه، والله محاسبه فيه ومعاقبه عليه، وهذا لعمري هو النوع الذي يشكو الوطن حمله وضياعه وتفرقته وجوعه وظمأه وتفككه وعذاب مواطنيه وسخرية أعدائه واستهوانهم وكيدهم واستغلالهم وتوعدهم بالشر له. ساقني لهذه الخاطرة - بعد مشاهدة التلفزيون - نسوة دخلن المدينة بالأمس وتفرقن بطرقها، وقد توجهت كل واحدة منهن إلى معارفها تطلب التصويت لقريبها المرشح، وبالتأكيد، قد وجد أكثرهن الاستجابة والتجاوب، ما جعلني - وأنا غير مرشح - أفقد الأمل، وأنعى الأهل، وألعن الجهل، وأفكر في مصير هذا الوطن الذي كلما ارتفع وقع، وكلما نهض جذع، بسبب سوء تفكير بعض أهله، وهذا هو النوع الذي يهدم ما وصل إليه وعي الأكثرين في وطننا، فالجهل هو الداء الوحيد الذي يضر بعملية الانتخابات، لأن صوت جاهل واحد قد يرجح بكفة الوعي الذي به يختار من هو أصلح وأفلح وأنجح لقيادة الوطن، ليدخل برلمانات مستقبلنا بحقه ومعرفة دائرته بصدقه لا بمايكرفونات دعايات الإنشاء وتلميعات الأدعياء و«جير» الحيطان ومنشورات الجدران، بوعي يغصب أعداءه - إن كا له أعداء - للإدلاء بأصواتهم له، رجل يخشى ربه ويعرف عاقبة أمره، ويعرف متى يرفع يده موافقاًَ أو معارضاً، يسأل قبل أن يجيب عما لا يعرف، وعاقبة ذلك على الجمهور، رجل لا يخشى في الله لومة لائم، همه وطنه، لا بطنه، يحمل هم غيره، لا نفسه، أمانته لا خيانته، عزه لا ذله، فالعالم قد تحضر، ونحن عندنا من الأرض ومواردها فوق ما يمتلكه العالم، فقط نحتاج على من يوجهها بصدق الإيمان وقوة العزيمة، وصلاح النية. اللهم اجعل عاقبة أمرنا خيراً، وملِّكنا رشدنا حتى نضع أرجلنا موضعها، بلا عثرة تعود علينا بتهشيم أجسادنا وأرواحنا من بعد عافيتنا.