في هذه الحلقة نواصل الإجابة على: كيف هضمت الثقافة المحلية الثقافات الوافدة لتنتج مدارس غزت الوعي السوداني.. - الاستيعاب الوجداني للديانات الجديدة استمرت في الحضارة النوبية حتى جاء عصر مدينة الفسطاط (القاهرة)! ومن هناك انطلق الفقيه إبراهيم أبو الفيض وهو أول من تكلم بالتذوق الوجداني قبل أن يظهر في العراق على يد الشيخ الجنيد! *** هذا التذوق الوجداني التاريخي الذي ظل أحد آليات المزاج النوبي في استيعاب الثقافات الوافدة هو السبب الأساسي الذي دفع الشيخ بمدرسة الشيخ سوار الدهب إلى الجمع بين العلوم الفقهية والتصوف. هذه الخصوصية النوبية التاريخية لمسها الدكتور عوض احمد حسين شبة في كتابه (الإسلام في دنقلا) لمساً خفيفاً ولكن بطريقة معبرة إذ يقول : «ولعل السبب في ذلك أن السكان كانوا يميلون إلى التصوف لبساطة منهجه واعتمادهم على التلقين والذكر واستعمال الطبول والترانيم..» هذا التيار الصوفي النوبي القديم الذي سبق الإسلام هو نفسه الذي أعاد تشكيل فقه الشيخ غلام الله بن عايد- إن صحت الروايات- لتخرج في النهاية بضاعة فقهية دنقلاوية نوبية هي مدرسة الشيخ سوار دهب ابن دنقلا وجزيرة بدين!! المرحلة الانتقالية في عملية التلقيح الثقافي بين الثقافة الوافدة والثقافة المحلية هي السبب الأساسي للتصادم الحاد بين مدرسة غلام الله والشيخ سوار دهب.. على أثر هذا الصدام تم نفي الشيخ سوار الدهب إلى الشمال ثم عاد مرة أخرى منتصرا، لتنشر دعواه الصوفية في أرجاء السودان وقد كان بالفعل أهم مدرسة دينية آنذاك. إذن في مدرسة هذا الشيخ تصالح الإسلام مع الثقافة النوبية بشكله الرمزي وأقول رمزي، لأن المدرسة الصوفية الجديدة لم تستطع أن تخترق الحاجز اللغوي، لأنها أفرطت في التشبث باللغة العربية والعرقية العربية، دون اهتمام باللغة النوبية المحلية؛ لهذا هاجرت في نهاية المطاف رغم أنها تركت ذكرى عطرة في وعي دنقلا، وظلت دنقلا على عهدها حتى سميت مدينة الصالحين ! بعد هروب المشايخ إلى أصقاع السودان المختلفة لم تقف الثقافة النوبية الدنقلاوية مكتوفة الأيدي، بل استعانت بخبرتها التاريخية في التعامل مع الوافد وخلقت لنفسها ثقافة هجينة، هذه الخطوة يشير إليها الدكتور عوض شبة عندما يقول إن الخلاوي كانت تشرح شكل الحروف العربية باللغة النوبية «معظم مصطلحات الخلوة كان لها مقابل باللغة النوبية» مما كان له أثر كبير في نشر العلوم الدينية بين الأهالي، ونلاحظ هذا الجانب أن هناك مشابهة للديانة المسيحية التي كانت شعارها تؤدي بلغة أجنبية». هذا الأمر يشير إليه أيضاً الأستاذ الطيب محمد الطيب بالقول إنهم ترجموا حتى الأسماء العربية إلى النوبية: اسم عبد الله وضعوا له ترجمة محلية (نقد الله)! وذكرنا من قبل في «وردي .. الرحيق والأشواك» أنهم أحدثوا خمراً مخففة ربما لم تكن مسكرة تحت مسمى «فقيرين دكاي» أي خمر الشيوخ! وهناك في دنقلا أيضا يورد مصدرنا السابق أنهم سمحوا ببعض الخمور للشيوخ المحليين وهناك جذور في الثقافة النوبية تغذي فكرة بناء الأضرحة والقباب! هذا الاستيعاب العجيب للثقافة الوافدة أدى في نهاية المطاف لتغذية اللغة المحلية بطاقة يحملها لغة أجنبية ساحقة كاللغة العربية! ومن هنا نستطيع القول إن «الإسلام» رسخ الثقافة النوبية بدلاً أن يقوضها، وربما يظهر هنا بوضوح؛ لماذا صمدت اللغة النوبية في دنقلا كل هذه القرون رغم الهجمة العرقية الشرسة! الخلاصة أن الثقافة النوبية المحلية في دنقلا استوعبت اللغة النوبية كإحدى مكوناتها الحضارية، حتى أصبحت المعادلة كالتالي: لغة عربية لممارسة الطقوس الدينية، ولغة دنقلاوية نوبية للتعامل مع النيل والزراعة.. عاشت اللغتان جنباً إلى جنب وسارتا معا كفرسي رهان !! لقب (ساتي) استبدل الأدوار مع لقب (شيخ)، وعبدالله مع نقد الله! وهناك أحياناً نوع من الصراع اللغوي لم يجدوا له حلاً، مثل :مصطلح (رحمتات) هذا الاسم العجيب يطلق الآن على (عشاء الميت) لا هو بالعربية ولا بالنوبية !! أما كيف أصبحت الدنقلاوية لغة النيل والزراعة مسألة لا تحتاج إلى الوقوف كثيراً.. العرب لا يعرفون الزراعة واللغة النوبية حتى الآن في الأصقاع البعيدة الممتدة حتى الخرطوم هي لغة الزراعة والجر *** هذا التلاقح الخلاق أو قل التكامل الثقافي بين (العربية والنوبية) أنتج تعايشاً ثقافياً عميقاً يمكن أن نرمز إليه «بالضريح والنخيل».. كان طبيعياً أن تفعل الخصوصية النوبية فعلتها في الثقافة الإسلامية الوافدة، رأينا كيف أنتجت مذهباً إسلامياً يقوم على التذوق الوجداني، ومعلوم أن المجتمعات المسكونة ببقايا حضارات قديمة تحيل الثقافات الحية إلى وجدانيات طبقاً لمتطلبات الحالة. هذه الخاصية وقفنا عندها طويلاً في اصدارة «قراءة في تاريخ الأقباط»، وإذا كان لابد من أن نعيد شيئاً فهو القول: إن «التصوف» الإسلامي الذي انطلق من دنقلا إلى أصقاع السودان المختلفة شبيه بالمذهب القبطي الذي أنتجته مصر الفرعونية من الديانة المسيحية الوافدة! هذا الوعاء الثقافي المتكامل المنتج لدنقلا النوبية هو ما أرادت أن تنشرها قصيدة «في القولد التقيت بالصديق»! لو استدار الزمن كهيئته كنت سأهمس في أذن المرحوم الوزير المعلم الشاعر عبد الرحمن على طه قائلاً له: نطلب منك وأنت الرائد والأدرى أن تحدث تعديلاً بسيطاً في هذه القصيدة التي كانت تدرس في حصص الجغرافيا لتلاميذ السودان. البيت الشهير: فكم أكلت معه الكابيدة وكم سمعت أور وو ألودة نعمل فيه تعديلاً هكذا: فكم أكلت معه الكابيدة وكم سمعت «أرقدي جديدة»!! هذا الشطر مستعار من أهزوجة نوبية.. بالتعديل الأخير نكون قد قدمنا الثقافة الدنقلاوية بكامل أبعادها لطلاب المدارس.. بمصطلح «أرقدي جديدة» نكون قد وضعنا كل اللهجات المحلية في وعاء واحد واللهجات هي (عربي دنقلا - أشكر الدنقلاوية - نوبيين النوبة «الشمالية»). «أرقدي» المذكورة هي حلقة الساقية معروفة هكذا في كل بلاد النوبة، أما «جديدة»، فالمصطلح أصلاً كلمة عربية أعادوا إنتاجها محلياً. والشيء بالشيء يذكر: في هذه القصيدة تظهر بوضوح إجابة جديدة للسؤال القديم: لماذا لم تهزم النوبية في هذا المكان رغم أعاصير السياسة والدين والأعراق؟ يخاطب الشاعر النوبي بقرة الساقية وهي تعمل ويشبهها بالوزة، يبدو هنا في قوله «أور وو ألودا» في هذا التعبير نوع من الالتصاق العجيب بين الإنسان وهذا الحيوان الأليف الصديق! وكله بسبب الأرض ومياه النيل، هذا الارتباط من جهة أخرى هو سبب قوة البنية الداخلية للثقافة النوبية دنقلا!! *** الحلقة القادمة ..القابلية للحضارة القديمة هي التي أنتجت هذه الخلاوي !!