مايو لدغت من جحر اليسار، فوضعت اصبعها الملدوغ في باطن كفها وانطلقت نحو اليمين لكن على طريقتها الخاصة، راحت تحيط نفسها بأجواء تطهيرية ساهم فيها دعم الرئس نميري السخي للسجادت الصوفية ، والتي وجدت لها موطيء قدم داخل القصر الجمهوري، فأخذت تنسج الأوهام من حول الرئيس مستغلة حالته الصحية، والتي كان يأخذ تحت تأثيرها عقاراً يجعله نصف نائم، مما يتطلب ابتعاده عن العمل السياسي أثناء تعاطي ذلك العقار، المجموعة كانت بارعة في الدجل والشعوذة- كما ذكر منصور خالد في الفجر الكاذب- أن أحدهم حينما كان في القضائية صدرت له تعليمات واضحة من إدارة الجهاز القضائي بأن لا يستغل قاعة المحكمة للقيام بأعمال الدجل والشعوذة، هذا الى جانب أن حالة الرئيس الصحية كانت سراً تعلمه الأجهزة الأمنية، ولا تستطيع أن تبوح بها حتى في أضيق نطاق، لذلك لم تستطع مراكز القوى الأخرى في مايو التحرك لإنقاذ الرئيس من براثن تلك القوى- كما ذكر ضابطا الأمن وقتها هاشم ابورنات، ومحمد عبد العزيز في سفرهما (أسرار جهاز الأسرار) الذي أشرنا إليه في الحلقة الأولى.. في تلك الأثناء كان لجنرال مايو الأديب والمتحدث البارع عمر الحاج موسى مجلس للانس الرفيع في منزله، كان عبارة عن صالون أدبي ترتاده نخبة العاصمة واستطاع الاخوان المسلمين التأثير فيه عن طريق دفع الله الحاج يوسف، مما جعل النقاشات تأخذ منحى مختلفاً، حيث انصبت على ضرورة تطهير المجتمع ومحاربة العادات المجتمعية المنافية للشريعة الإسلامية مثل بيع الخمور وتعاطيها والاقتمار العلني في ذلك الوقت، تلاقت جهود الإسلاميين مع جهود مجموعة القصر وحالة النميري الصحية، فكانت قوانين سبتمبر الإسلامية عام 1983م، وإعدام الشهيد محمود محمد طه في تلك الأثناء كانت الاستخبارات العسكرية ترصد نشاط 3 ضباط على علاقة بالمعارضة، لكن الرئيس نميري استفاد من هذه العلاقة لتقريب الشقة بينه وبين المعارضة اليمينية، فجاء بهم ال3 الى موقع النائب الأول للرئيس على التوالي حسب قرب كل منهم من المعارضة، وحينما اقترب موعد المصالحة الوطنية كان في المنصب أكثرهم قرباً من المعارضة علاوة على رئاسته لجهاز أمن الدولة، هذا الرجل بالذات قيل إنه موضع ثقة الصادق المهدي، وينال تقدير السيد محمد عثمان الميرغني، وهنا لابد من قصة أوردها الضابطان في كتابهما المشار إليه، لأنها على جانب من الطرافة نريد أن يتفكه بها القارئ الكريم، وهي أن لجنة حصر ممتلكات جهاز الأمن وجدت أموالاً تخص الحسابات السرية للجهاز، كانت قد أخذت بواسطة أحد هولاء الضباط الثلاثة، وحينما طالبته اللجنة برد المبلغ رفض على أن يقوم بتبرير ذلك في وقت لاحق، وقد جاء هذا الوقت من خلال محكمة مدبري انقلاب مايو والتي عزم فيها قيادات مجلس قيادة الثورة أن يفضحوا علاقة المعارضة بالنظام، فذكر الضابط أنه قد أخذ المبلغ المشار في وقت كانت فيها المعارضة تعقد اجتماعات في عدة عواصم عربية وعالمية في زمن واحد، فأخذ الضابط المبلغ المرصود باسمه في الحسابات السرية للجهاز، ويمم شطر إحدى تلك العواصم وكانت المحكمة منقولة على الهواء مباشرة، لكن عند هذه النقطة قطع التلفزيون إرساله وقام ببث أغاني ولم يعد مرة أخرى الى نقل جلسات المحكمة متعللاً بارتفاع تكلفتها مع أنها أقل من تكلفة نقل سهرة غنائية .