٭ جاء في صدارة اخبار أمس الأول (الاثنين) بهذه الصحيفة ان والي النيل الابيض الجديد د. عبد الحميد موسى كاشا قد أصدر جملة من القرارات المهمة الهادفة للاصلاح الاداري والمالي تضمنت اعفاء وتكليف عدد من طاقم حكومة الولاية، ووجه الجهات المعنية بوقف الصرف من موازنة العام الجاري وايقاف اجراءات التعيين قيد النظر، واستثنت القرارات الصرف على الاجور والمرتبات الى حين اشعار اخر.. وشملت ايضاً وقف الاجراءات المتعلقة بالاراضي -عدا الاستثمارية- ومنع التصرف والتعدي على الميادين والساحات العامة أو تغيير غرضها مهما كانت الاسباب والمبررات. ٭ الدكتور عبد الحميد كاشا، جار قريب في اركويت حيث اسكن وكثيراً ما التقيه بين المسجد والبقالات.. رجل تنم محياه عن طيبة اهلنا في ارياف السودان، يلقاك هاشاً باشاً بلا تكلف.. والقليل الذي عرفته «سماعياً» عن سيرته انه رجل عصامي تعب على نفسه وتدرج على سلم التعليم والعمل حتى بلغ ما بلغه، ولم يعرف عنه ولوغاً في التعصبات الحزبية او انغماساً في الولاءات القبلية او الجهوية، وتقول سيرته الولائية القريبة انه من اولئك الرجال غير الامعات الذين يستطيعون ان يقولوا «لا» في وجه من هم فوقهم حزبياً او ادارياً.. وهذا وحده كاف لان يجعلنا نمحضه النصح الواجب، بحسبنا من ابناء «بحر ابيض» منذ «التركية السابقة» عندما هاجر اهلنا جنوباً واستقروا هناك يعمرون وينتجون. ٭ اهم ما يميز بحر ابيض سيادة الوالي.. هو انه «سودان مصغر».. جمع اشتاتاً من أقوام السودان من كل الاتجاهات والاعراف، لا تكاد تجد جهة او قبيلة غير ممثلة في تلك الرقعة الممتدة من جبل اولياء الى الجبلين، ذلك لان بحر ابيض ومنذ التركية السابقة اصبح معبر التجارة الرئيسي من والى جنوب السودان الذي اشتهر وقتها ب(بَحّارَة).. معبر تلك التجارة بكل مكوناتها المعلومة تاريخياً.. كما ان المنطقة نفسها بما تحتويه من خيرات الارض وجزرها ومناخها المطير (حينها) كانت مثالية لمن ارادوا فلاحة الارض او تربية الثروة الحيوانية وتنميتها، مثلما كانت جاذبة للتجار وحتى بعض اهل الصناعة في اوقات لاحقة عندما راجت تجارة القطن والصمغ والمواشي، كما انها تمثل من حيث الموقع الجغرافي مركزاً و«سُرّة» للسودان كله، ينطلق منها المسافرون ليصبحوا بعدها بقليل في اي من اتجاهات السودان الاربعة اختاروا. ٭ لكل هذا وغيره فان السيطرة على هذا الاقليم الاستراتيجي الذي يمثل شمال النيل الابيض بعد ان يعبر الجنوب حتى يصل خزان جبل الاولياء تمهيداً لالتقاء صنوه «الازرق» عند الخرطوم تمثل.. تاريخياً.. اولوية للدولة في الخرطوم، وللمفارقة تمثل بحر أبيض أيضاً قاعدة انطلاق للتغيير.. فالتاريخ يحدثنا عن ان اول ثورة قومية للتحرير والاستقلال الوطني قد انطلقت من «الجزيرة ابا» في عمق بحر ابيض بقيادة الامام الأكبر محمد احمد المهدي.. قبل ان تنتقل غرباً وشرقاً وتعم ارجاء البلاد وتؤسس لأول دولة مستقلة في القارة الافريقية. ٭ يذهب كاشا والياً مُعيّناً للنيل الابيض، في وقت شهدت فيه تلك المنطقة القريبة من الخرطوم.. للمفارقة.. اكبر عمليات تدمير للموارد والمرافق الاقتصادية وأعمق تقويض للحياة الاجتماعية فيها، حتى اصبحت الهجرة -داخلياً أو خارجياً- بمثابة مقرر اجباري على كل أسرة تعاطيه من اجل الحفاظ على ما تبقى لها من كرامة. ٭ عمق الازمة يجعلنا.. اخي كاشا.. نستلف قول اهلكم البليغ في بغرب السودان بأن «ألمي حار ترا ولا لعب قعونج» وترجمته بالفصحى ان «الماء الحار لا يصلح للعب الضفادع وعبثها» ومعناه الاعمق هو ان الامر قد حزب وان الازمة قد اشتد اوار نيرانها بحيث لم يعد في الوقت متسع للاسترخاء او التلاعب او المناورة، ولا بد من الحزم والحسم.. وخطاباتكم الاولى وقراراتكم الابتدائية تؤشر ان لديكم الرغبة في مواجهة «الحالة الكارثية» التي يعيشها بحر ابيض.. هذا لو تركوكم على سجيتكم.. ولو استمعتم لاهل الفضل والورع من اهل المنطقة العالمين ببواطن الامور.. وما اغرق «بواطنها».. لتتخذ القرارات السديدة في الوقت المناسب قبل ان يلتف عليك او حولك الانتهازيون.. أولئك «الكباتن» و«السحرة».. الذين يجيدون اللعب بالبيضة والحجر والسباحة في الماء العكر. ... (نواصل)