في المقال الأول من هذه السلسلة الثلاثية سردنا تاريخ وطريقة تكوين الأحزاب السياسية، وأوضحنا أن الديمقراطية يمكن أن تمارس بدون أحزاب سياسية كما حدث في أمريكا بعد نجاح ثورة الاستقلال من بريطانيا في العام 1776م وحكم الأب الروحي لاستقلال أمريكا جورج واشنطنأمريكا لدورتين (1788-1792م) بدون أحزاب، ولم يكن له حزب وحتى عندما غادر الرئاسة وفي خطبة وداعه عام 1792م أشار الى مخاطر كثرة الأحزاب على تماسك الدول، وفي المقال الثاني تم سرد وتحليل حكم الديمقراطية التعددية في السودان منذ العام 1953م حتى 1989م. أوضح المقال انه في الفترة التي حكم فيها السودانيون أنفسهم من 1953 حتى اليوم في 2015م أي اثنين وستين عاماً طوال هذه الفترة كان الحكم الحزبي الديمقراطي متعدد الأحزاب فقط في أربعة عشر عاماً وباقي الثمانية وأربعين عاماً كانت حكومات وأنظمة أتت بعد انقلابات عسكرية فكانت في ثلاث حقب، الأولى عسكرية منذ بدايتها حتى نهايتها، كانت فترة حكم عبود ست سنوات من 1958-1964م، تلتها فترة حكم نميري لمدة ستة عشر عاماً من 1969-1985م بدأت عسكرية يسارية أصبحت حكم فرد وحزب واحد هو الاتحاد الاشتراكي، ثم انتهت يمينية بعد تحالف نميري مع الجبهة القومية الاسلامية في مسيراتها المليونية المؤيدة له، ولكن في آخر أيامه انقلب على الإسلاميين وزج بهم في السجون التي خرجوا منها بعد انتفاضة أبريل 1985م النقابية، وتلت فترة الحكم الديمقراطي بعدها انقلاب الانقاذ يونيو 1989م والذي بدأ اسلامياً شمولياً عنيفاً حتى العام 1999م وتحول النظام الشمولي الأوحد الى حزب المؤتمر الوطني الحالي، والذي بدأ بعضوية الحركة الاسلامية السودانية وانضم اليه بعد ذلك أعضاء من خارج الحركة الاسلامية، لكن حتى اليوم التيار المحرك والحاكم منذ تكوين المؤتمر الوطني هو الحركة الاسلامية لا توكل لأعضاء المؤتمر الوطني خارج الحركة الاسلامية أي أعباء وزارية أو تكليفات استراتيجية، لذلك استمر الحزب حزباً شمولياً عقائدياً ثم سمح نظام الانقاذ لبعض الأحزاب بالمشاركة في العملية الديمقراطية وتسجيلها كأحزاب سياسية معترف بها تملك دوراً وتمارس نشاطاً مثل أحزاب الأمة بكل فصائله الاتحادي الديمقراطي بكل فصائله، حزب البعث بكل فصائله، الحزب الشيوعي، وأحزاب المعارضة من الاتحاديين الذين يدعون الى فكر الوطني الاتحادي بزعامة الأزهري، وحزب المؤتمر السوداني، وحزب المؤتمر الشعبي الذي انشق عن المؤتمر الوطني بعد المفاصلة المعروفة عام 1999م، بالرغم من كثرة هذه الأحزاب السياسية فإن ضعفها المادي والتنظيمي وتشظيها وبعد قادتها عن قضايا الجماهير والتركيز على مصالحهم الخاصة البعيدة كل البعد عن مطالب ومعاناة الجماهير وتركيز قادتها على المحاصصة عند تكوين الحكومات عقب الانتخابات، كل ذلك جعل نظام الحكم الآن في السودان شكلاً حزبياً تعددياً ومضموناً حكم الحزب الواحد لأن هذه الأحزاب خاصة الاتحادي الديمقراطي بشقيه الأصل والمسجل اكتفت بجلوس ممثليها في مقاعد الوزارات الوثيرة في تنفيذ السياسات التي تأتيها، فعملهم أشبه بأعمال السكرتارية والمقررين وهم كوزراء قانعون بهذا الدور الذي يرضي مصالحهم الشخصية فقط بعيداً كل البعد عن مصالح الجماهير التي انفصلوا عنها وانفصلت عنهم، ولا يستطيعون مواجهتها.. هل يستطيع أي من هؤلاء الوزراء ومساعدي الرئيس من الأحزاب المتوالية المشاركة أو التوجيه والتأثير في أي من الشؤون الآتية؟: وقف الحروب في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق أو تحديد المشاركة في المفاوضات في أديس أبابا مع الاتحاد الأفريقي وقطاع الشمال، هل يستطيع السيطرة على غلاء الأسعار وتوفير السلع الضرورية، وايصال المعونات الى النازحين، تعديل هياكل الحكم المترهل في 18 ولاية، هل يستطيع أي من هؤلاء الوزراء أن يتحدث عن الصرف الحكومي المترهل في كثرة الوزراء ووزراء الدولة ووزراء حكومات الولايات والدستوريين ومخصصاتهم، هل يستطيع أحد هؤلاء الوزراء الادلاء بدلوه في شأن التنقيب عن الذهب واستخراج البترول، هل يستطيع أحد من الوزراء توجيه العلاقات الخارجية المتأرجحة بين تطبيع العلاقات مع السعودية ومصر ودول الخليج وأمريكا ودول الغرب، وبين العلاقات الاسلامية مع ايران وتركيا لذلك فهم وزراء ديكور لا سند جماهيري لهم ومواجهون بثورات شبابية عارمة في المستقبل القريب خاصة حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، هل يستطيع أي من هؤلاء الوزراء وقادة أحزاب التوالي خاصة الاتحادي الديمقراطي الأصل والمسجل الحديث من قريب أو بعيد عن دور أجهزة الأمن والمخابرات والشرطة والجمارك والدعم السريع وابداء أي رأي وطني صادق ومجرد عن طريقة أداء هذه الأجهزة وكيفية التنسيق بينها لتحقيق الأمن والطمأنينة للمواطن، هل يؤثر هؤلاء الوزراء في ترقية الخدمات الأساسية وتقليل أسعارها بما يجعلها في مقدور الغالبية العظمى من الشعب. كما وعدنا أن نخلص في هذا المقال الى النظام الأمثل والمستدام لحكم السودان ديمقراطياً وإبطال مفعول كل القنابل الموقوتة الموضوعة لادخاله في فوضى غير خلاقة، تفضي الى تقسيمه الى خمس دويلات بعد موت ودمار وانهيار. الآن ومنذ فترة نشط المجتمع الدولي في التدخل بشكل واضح في أزمة السودان، وتدخله هذا شئنا أم أبينا سيكون هو المخرج المرسوم بدقة للحفاظ على السودان وتماسكه لثلاثة أسباب تهم المجتمع الدولي، وهي مصالحهم الاقتصادية بحكم ثروات السودان في سطح وباطن أرضه، الأمن والسلم الدولي بحكم جوار السودان لتسع دول افريقية وعربية، كلها في أنظمة هشة قابلة للانشطار وتهديد السلم العالمي والاقليمي مثال ذلك ليبيا، وتشاد، وافريقيا الوسطى، ودولة الجنوب، واثيوبيا، واريتريا، والسبب الثالث والأخير وهو الناحية الانسانية للمدنيين النازحين من أراضيهم ومعرضون لكافة أنواع المعاناة في المأكل والمشرب والعلاج والأمن والجرائم ضد الانسانية والاغتصاب والنهب، لذلك يطرح المجتمع الدولي مشروعاً لتسوية شاملة تنهي أزمات السودان، ويسعى المجتمع الدولي الآن الى اقناع الأطراف للجلوس لحوار ومفاوضات جادة خاصة الحكومة التي تقدم رجلاً وتؤخر رجلاً لعلمها أن (جرجرة) المخطط الدولي هذه ستقود الى طرح تسوية بمرجعية القرار الأممي 2046 والبيان الاقليمي الافريقي لمجلس السلم والأمن الأفريقي في جلسة رقم 456 وكلها وفي أهم معالمها تؤدي الى وقف الحرب وحل قوات قطاع الشمال وتكوين حزب سياسي للحركة الشعبية وهو حزب سيكون بكل المقاييس جاذباً لقطاع الشباب من الجنسين، إضافة الى الجالسين على الرصيف وهم يعانون من الضيق المعيشي وعدم القدرة على مقابلة متطلبات أسرهم وأبنائهم، عليه فإن التسوية التي سوف تتم بعد موافقة الحكومة على الجلوس مع قطاع الشمال والجبهة الثورية والامام الصادق المهدي الذي زاد ارتباطه بالحل الخارجي ويعمل في تناغم مع المجتمع الدولي خاصة الأوربي، هذه التسوية سوف تتم حتى لو رفضت أحزاب قوى الاجماع المشاركة فيها، والتي لا أرى سبباً في أن ترفضها أحزاب قوى الاجماع، هذه التسوية تحد كثيراً من سلطات الحزب الواحد ولكن لن تفككه كما تريد المعارضة، ونظام الانقاذ ما زال قوياً لكن مثله مثل القطار عندما يصل محطة يقوم عمال (الدريسة)- عمال الخط - بتعديل مسار القطار في خط آخر وتقوم إدارة القطار بتغيير طاقم قيادة القطار، حتى يصل الى محطة أخرى غير التي كان سائراً اليها قبل تعديل الخط بعمال التسوية.. ولتعلم المعارضة المتشددة ان التسوية التي يضعون العقبات في طريق تحقيقها تجد معارضة أعنف وأقوى من شريحة مهمة في المؤتمر الوطني، وهي شريحة الحركة الاسلامية، ولتعلم المعارضة المتشددة أن شروطها التي تريدها لا يمكن تحقيقها إلا بانقلاب عسكري انحيازاً لانتفاضة شعبية وهو أمر بالغ الصعوبة. صوت العقل ينادي بما يلي: أولاً: قبول الحل السلمي والانخراط في الحوار الداخلي والمفاوضات الخارجية في أديس أبابا. ثانياً: قبول الحكومة للعودة الى الاتفاقية الاطارية وتأكيد وتأمين قيام حزب للحركة الشعبية مقابل دمج قواتهم في الجيش السوداني. ثالثاً: تجميع الأحزاب المتفقة آيدلوجياً وفكرياً في حزبين كبيرين لحكم السودان حزب في الحكومة والآخر في المعارضة، والتجميع الواضح والعملي هو تقسيم الأحزاب والمجموعات بين تجمع ينادي بالدولة الاسلامية يندرج تحته حزب المؤتمر الوطني، وحزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي، وحزب المؤتمر الشعبي، والاصلاح الآن وكافة التنظيمات الاسلامية، وبين تجمع آخر ينادي بالدولة المدنية الحديثة وفيه يندرج الحزب الوليد للحركة الشعبية، الحزب الشيوعي، حزب البعث، المؤتمر السوداني، أحزاب الوطني الاتحادي التاريخي. هذان التجمعان سيكونان حزبين في تعادل بديع في تناسب متحضر يعيد السودان الى استقراره ورفاهيته، وهو أحد الأنظمة التي أوردناها في المقال الأول الديمقراطية بحزبين كبيرين لا يحكم خلاف أحدهما مثل المحافظين والعمال في بريطانيا، والجمهوريين والديمقراطيين في امريكا وخلافهما في المانيا، وفرنسا، والهند، وكينيا لتحقيق ذلك يجب أن تسن قوانين حاسمة لا تسمح بقيام حزب إلا بشروط صعبة التحقيق، تجبر التجمعات الصغيرة بالتحالف مع إحدى الكتلتين اللتين ذكرناهما. والله الموفق.