تحقيق: إشراقة الحلو - معاوية عبد الرازق : لم يكن يخطر على بال المواطن «ع.أ» الذي يقبع الآن بعنبر الغارمين بسجن الهدى بأم درمان أن يجد نفسه بين ليلة وضحاها خلف القضبان ويتحول فجأة من مواطن حر إلى سجين لا حول له ولا قوة، يعاني ويلات الحبس ويحمل هم أسرته التي أصبحت بدون عائل، حيث لم تفلح كل المحاولات لفك أسره بعد أن تضاعفت ديونه إلى مليارين، قبل ثلاثة أعوام أصيب «ع.أ» بجلطة في الدماغ تسببت له بشلل نصفي، لم يكن يخطر بباله أن الظروف ستدفع به ليقع تحت قائمة «يبقى لحين السداد» فيضطر لبيع منزله ومن ثم يصل الحال بالأسرة لأن يضطر الأبناء لترك مقاعد الدراسة. «ع.أ» كان يمارس أعماله التجارية بصورة طبيعية لكن كثيراً من المياه جرت تحت الجسر، حيث دفعت يه الحاجة العاجلة للنقود والرغبة في الحصول على أموال في وقت وجيز لممارسة الكسر، فدخل ضمن من يمارسون تجارة الكسر إلى أن تضاعفت ديونه وصار يعاني من ويلات الحبس إلى جانب معاناة الأسرة، إلا أن أكثر ما يحزنه أن ديوان الزكاة لم يمد له يد العون بحجة أن المبلغ كبير وليس باستطاعة الديوان توفيره .. .. جلسنا معه حيث حكى قصته ل «آخر لحظة» وقال: كنت أعمل تاجراً بالسوق الشعبي أم درمان، وأقوم بترحيل المواد التموينية للولايات عبر اللواري، ويتم منحي فترة سماح محددة لتسديد المبلغ، وبما أن الفترة غير كافية اضطررت للبيع بالكسر فحدث ظرف معين حال دون تسديدي للمبلغ المعلوم وهو قرابة ال (5) آلاف جنيه، وبسبب ارتداد الشيك دخلت سجن الهدى بأم درمان بعد أن حُكم عليّ بالبقاء لحين السداد، رغم بيع منزلي الذي تفوق قيمته ال(400) ألف جنيه، بالإضافة لجميع ممتلكاتي، ونتيجة لذلك تشرد أبنائي الذين تركوا مقاعد الدراسة، وبين حيرتي في كيفية دفع الرسوم وعجز أهلي ومعاناة أبنائي وزوجاتي الاثنتين، أصبت بجلطة في الدماغ وتسببت لي بشلل نصفي، وما يحزنني تضاعف القيمة حتى وصلت لمليارين، ولم يحرك ديوان الزكاة ساكناً، ولم يتمكن معارفي وأبنائي من توكيل محامي للدفاع عني بالقانون المستحدث من الشريعة «الإعسار». يبدو أن عمليات الاحتيال التي يمارسها البعض زجت بالكثيرين إلى غياهب السجون. «م.ع» تعرض لعملية احتيال عبر الموبايل من أحد التجار سرد قصته والعبرة تخنقه قال التقيت بأحد التجار ووعد بمنحي تمويلاً بقيمة (100) ألف جنيه لإنشاء دورات مياه بموقف الإستاد عبر إعطائي بضاعة مقابل شيك بمبلغ (130) ألف جنيه مؤجل السداد، وقبل تسليمي للبضاعة عرض عليُ أن يقوم أحد معارفه بشرائها بمبلغ (85) ألف جنيه ووافقت باعتبار أن البضاعة لا علاقة لها بمواد البناء، وبالفعل تحدثت مع المشتري عبر الهاتف وبعد انتهاء مكالمتي معه أخبره التاجر بأنه سيسلمني المبلغ على أن يتحاسبا فيما بعد، ويواصل «م» دارت الأيام ولازمني عدم التوفيق وتعقدت الأوضاع فالتف الحبل حول عنقي بسبب عجزي عن تسديد المبلغ فقام التاجر بسجني، وقد علمت فيما بعد أنه مرابي ولا وجود للبضاعة أصلاً، قام زملائي بتدوين بلاغ في نيابة الثراء الحرام وتم القبض عليه وحكم بالسجن بتهمة ممارسة الربا، وطالب «م.ع» السلطات بضرب المرابين في معقلهم حتى لا يتسببوا في سجن ضحايا آخرين. القانون الجنائي لسنة 1991 نص على عقوبات عديدة وفصل العقوبات المتعلقة بالشيكات بالمادة (179)، هكذا بدأ المحامي سليمان عوض الكريم حديثه، وقال إن المشرع السوداني اعتبر أي مخالفة متعلقة بالشيكات جنائية خلاف ما يحدث بالدول الأخرى والمبرر لذلك للمحافظة على الشيك واستقرار المعاملات المدنية والتجارية، وأضاف إذا دخل المشكو ضده السجن بسبب شيك لا يخرج بكفالة وإنما بدفع بقيمة الشيك، في حال رغبة الطرفين في مواصلة القضية أوإذا اعتقد المتهم أن القرض ربوياً، وقال في هذه الحالة لا تُقبل الخطابات البنكية، وأشار المحامي إلى إمكانية تنازل المحكمة عن الحق العام حالما تنازل الشاكي عن حقه الخاص، ولفت سليمان إلى أن قانون الإعسار المستمد من الشريعة الإسلامية يمهل المتهم فترة زمنية لسداد ما عليه من أموال وقت تحسن أوضاعه المادية، ويطلق سراحه بعد إجراءات معينة ورحضار عدة شهادات تُثبت عدم امتلاكه لأي عقار أو أموال وأنه معسر تماماً، وأشار المحامي سليمان إلى الفرق بين المعاملات المؤجلة والربا، عند الإخلال بأيٍ من شروط البيع وهي التسليم والتسلم، يصبح البيع ربوياً، وحدد القانون الجنائي عقوبته بقانون الثراء الحرام والمشبوه، وقال عوض الكريم إن القانون تساهل في عقوبته بالسجن أو الغرامة أو عقوبة مع وقف التنفيذ حسب تقديرات القاضي، واعتبر المشرع هذا النوع من البيع باطلاً باعتبار أنه يشجع الكثيرين على التعامل به، مشيراً إلى تنامي الظاهرة مؤخراً حسب الوقائع التي أثبتتها المحاكم، وطالب بضرورة تشديد العقوبة لضرره بالاقتصاد السوداني. قالت الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم إن ظاهرة الكسر تشتمل على جوانب اجتماعية واقتصادية ونفسية تقوم به فئات عمرية مختلفة، وقالت إن الذين يمارسون هذه الممارسة غالباً ما يملكون طموحاً أكبر من إمكاناتهم ولديهم الرغبة في الحصول على أموال في وقت وجيز، وقالت إن الحاجة العاجلة للنقود تدفع البعض لممارسة الكسر، مشيرة إلى أن هؤلاء غالباً ما يتعرضون للخسارة، وقالت إن البعض يستخدم أمواله أو أموال الغير، وأضافت إذا كان هناك موظف يعمل في وظيفة لها علاقة باستلام النقود مباشرة قد يستخدم هذه الأموال فيقوم بشراء بضاعة ثم يبيعها بأقل من سعرها الحقيقي أو بالاستدانة من الغير ثم يقوم بإرجاع النقود لهم بالزيادة من الأموال التي في عدته، وقالت إن الضغوط النفسية تلعب دوراً مهماً في هذا الإطار خاصة عندما تتعلق الأمور بالأسرة خاصة الأبناء والزوجة فيسعى لتلبية احتياجاتهم ما قد يضطره للدخول في مثل هذه الممارسات، مشيرة إلى أن البعض خسروا منازلهم نتيجة للعمل عن طريق الكسر وأدخلوا أسرتهم الممتدة في خسائر مالية بالإضافة إلى وقوع حالات طلاق نتيجة لذلك، مبينة أن الزوج يكون قد عود الزوجة على مستوى معيشي معين فجأة يدخل السجن فتلجأ الزوجة إلى طلب الطلاق باعتبار أنه خدعها، وقالت هذا يؤثر على الأبناء فيدخلوا في اضطرابات سلوكية كاللجوء إلى المخدرات، واعتبرت من يمارس هذا الأمر شخصاً غير مسؤول، وأضافت من الممكن أن يستخدم أساليب أخرى كبيع البضاعة «برأس مالها»، وأبانت أن هذه الظاهر تؤثر في الدخل القومي وقد يتضرر منها تجار آخرون بسبب اتجاه البعض لكسر البضاعة وبيعها بأقل من سعرها. ولمعرفة رأي الدين حول الظاهرة أوضح رئيس دائرة الفتوى بهيئة علماء السودان دكتور أحمد حسن عبد الرحمن أن ما يعرف الآن ببيع الكسر كان يعرف قديماً ببيع التورق وهو أن يشتري الإنسان الشيء لا يريده لنفسه وإنما يريد النقود، فيشتريه بالآجل ويبيعه بالنقد بأقل من سعره، وهذا البيع صحيح عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنابلة الذين منعوا منه باعتباره استغلالاً لحوائج الناس لكن الجمهور نظروا إلى السلعة الداخلة فنفوا عنها علة الربا واشترطوا أن لا يبيع هذه السلعة للذي اشتراها منه، بمعنى أن لا يشتري منك سلعة بالآجل ثم بيعها بالنقد بأقل من سعرها، لأنه عين الربا وتسمى بيوع الآجل عند المالكية وهي ممنوعة ولكن ؤذا باعها لغير البائع فهذا البيع صحيح عند الجمهور لكن الإشكال الذي نعاني منه ليس إشكال بيع الكسر إنما قلة النقد التي تؤدي بالناس إلى هذه الحيل لكن هو في نفسه بيع صحيح عن الجمهور لا إشكال فيه الخبير الاقتصادي عبدالله الرمادي أرجع الظاهرة وتأثيراتها الاقتصادية إلى التعقيد ات التي تصاحب عملية الأقراض، وقال لو كانت إجراءات الأقراض المتبعة سهلة والمبالغ متوفرة لدى المصارف لما لجأ الأفراد إلى التعامل بالكسر وهو أن يشتري الشخص سلعة من المنتج أو المصنع أو وهو ليس بحاجة إليها كما أنه ليس بتاجر يتاجر في هذه السلعة لكنه يمر بظروف طارئة يحتاج فيها إلى مبلغ بصورة عاجلة فيتسلم هذه البضاعة على أساس البيع الآجل ليسدد قيمتها فيما بعد ويبيعها لجهة أخرى بأقل من سعرها الحقيقي حتى يتحصل على النقد بصورة عاجلة لحل مشكلة أو ضائقة، وهذا العمل لا يلجأ له الشخص إلا مضطراً، وأضاف أنه تترتب عليه أضرار بالنسبة للشخص من حيث تراكم الديون عليه حتى أنه يعجز عن سدادها، لكن لا أعتقد أن لها تأثيراً مباشراً على الاقتصاد إنما ضررها على الشخص الذي يمارس عملية الكسر، ويلجأ إليه الشخص عندما يعجز عن تغطية الاحتياجات الطارئة للمال من المصادر التقليدية كالبنوك، داعياً لحماية الناس من اللجوء لهذا الأمر عبر تبسيط إجراءات الاقتراض من البنوك خاصة التمويل الأصغر.