الجبهة الثورية مولود شرعي ولد مشوهاً- شرعي لأنه أتى من رحم تتفق مكوناته الستة في أهدافها لتعديل أو إسقاط نظام الإنقاذ ومشوهاً، لأنه نتاج مجموعات متناقضة فكرياً وآيدلوجياً فمن الطبيعي أن يفضي هذا التشويه الى وفاة المولود وهو طفل ابن ثلاثة أعوام، ودائماً يسعد الوالدان ولو بعد حين ويقبلان حكم وإرادة الله الذي أعطى وأخذ لحكمة يعلمها هو. التحليل الآتي يكشف أن الذين فرحوا وهللوا لانهيار الجبهة الثورية مخطئون، وكذلك الذين تحسروا- وهم تحديداً الحكومة والمعارضة- انهارت الجبهة الثورية ولم ينهار العمل المسلح بل عاد الى أصوله المتخصصة في كل منطقة.. حقيقة واحدة من أسباب تعثر المفاوضات في المراحل الأخيرة وبعد تكوين الجبهة الثورية هو صعوبة التعامل مع مكونات الجبهة الثورية غير المتجانسة شكلاً ومضموناً- شكلاً قضية وأزمة دارفور تختلف جغرافياً وتاريخياً عن مشكلة المنطقتين في جنوب كردفان والنيل الأزرق، إذ أنه جغرافياً بؤر النزاع في دارفور أقصى غرب السودان والنيل الأزرق في أقصى شرق السودان، وجنوب كردفان في الوسط، إضافة الى أن منطقة دارفور تمثلها خمس ولايات، والمنطقتان ولايتان فقط متباعدتان عرقياً وقبلياً- منطقة دارفور بها قرابة المائة قبيلة وبطون قبائل، في حين أن المنطقتين بهما أقل من عشر قبائل، تاريخياً أزمة دارفور نشأت قبل أكثر من عشرة أعوام تحديداً في 2003م، وأزمة المنطقتين قبل أربعة أعوام تحديداً في أبريل 2011م عقب انتخابات الوالي في جنوب كردفان.. التباين الفكري والعقائدي واضح في مكونات الجبهة الثورية الستة وهي الحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركات دارفور الثلاث المسلحة بقيادة د. جبريل، ومناوي، وعبد الواحد زائداً الاتحادي الديمقراطي المنشق بقيادة التوم هجو وحزب الأمة بقيادة نصر الدين الهادي، وقطاع الشمال امتداد للحركة الشعبية الأم التي أنشأها الراحل د. جون قرنق، وهي معروفة بميولها اليسارية وقربها من الحزب الشيوعي، وحركة العدل والمساواة بزعامة د. جبريل معروفة بانتمائها الكامل للحركة الإسلامية وقربها من المؤتمر الشعبي بزعامة د. حسن الترابي، حركتا تحرير السودان بقيادة مناوي وعبد الواحد معروفتان بميولهما الواضح للعلمانية، وقربهما من المجتمع الأوروبي خاصة فرنسا، أما الحزب الاتحادي الديمقراطي المنشق وحزب الأمة المنشق أيضاً بقيادة التوم هجو ونصر الدين الهادي هما امتدادان للحزبين الطائفيين متفقان في الفكر ومختلفان في الوسائل، هذه خلطة يصعب تماسكها من النواحي التاريخية والجغرافية والآيدلوجية والفكرية. هذه ناحية- الناحية الأخرى يكمن الخلاف البارز في مطالب كل مكون من مكونات الجبهة الثورية، وأهم مطالب حركات دارفور هو منح دارفور ميزة الاقليم الواحد الكبير الذي يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من التقسيم العادل للثروة والسلطة في السودان وإزالة الغبن الذي وقع على مواطنيه من فقدان لأراض (حواكير) زراعية، واستقرار مواطنيهم من الأصول الأفريقية في أراضيهم التي فقدوها والتعويض العادل المادي للخسائر جراء خروجهم من أراضيهم ونزوحهم لسنوات طويلة منذ العام 2003م، والاقليم الواحد الكبير لدارفور يزيل كثيراً من النزاعات والصراعات القبلية بسبب الثروات الطبيعية في سطح وباطن أرض دارفور، إذ أن عائد هذه الثروات سيكون موزعاً بين كل سكان دارفور في شكل تنمية وخدمات أساسية وبنيات تحتية، توزع بعدالة في كل مناطق الإقليم بغض النظر عن وجود هذه الثروات في منطقة أي قبيلة من القبائل.. أّما مطالب قطاع الشمال تتمثل في تنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل- (نيفاشا)- المتمثلة في تمييز جنوب كردفان والنيل الأزرق في حكم شبه ذاتي إعمالاً لاتفاق المشورة الشعبية. أزمة دارفور تحكمها اتفاقات الدوحة بينما أزمة المنطقتين يحكمها القرار 2046 والاتفاقية الاطارية يونيو 2011م، القرار 2046 لا يتطرق الى مشكلة دارفور من قريب أو بعيد، بينما اتفاقات الدوحة لا علاقة لها بالمنطقتين، لذلك فطن مهندسو القرار 539 الى الحل الشامل لأزمات السودان في عملية واحدة من مسارين المادة (13) من القرار 539 لحل كل اشكال العنف في كل أنحاء السودان، وجوهر هذه المادة فصل قضية دارفور عن قضية المنطقتين لذلك تشظي الجبهة الثورية وعودة العمل المسلح في جبهتين منفصلتين كما كانت في السابق أمر عادي ومنطقي، ولعل هذا الانقسام في الجبهة الثورية واحد من أسباب دعوة امبيكي للحكومة لمواصلة التفاوض يوم 2 نوفمبر بشأن المنطقتين مع قطاع الشمال في إعمال جزئي للقرار 539 ومقدمة ذكية للاجتماع التحضيري، وقد قبلت الحكومة الدعوة بشكل غير مباشر للاجتماع التحضيري الذي كانت ترفضه جملة وتفصيلاً، وعلى بعض المشاركين في الحوار الحالي الصمت وعدم الجهر بتكرار استحالة نقل أي جزء من الحوار خارج البلاد وأن لا يكونوا كاثوليكيين أكثر من البابا. عملياً الاجتماع التحضير سيبدأ في أديس في الثاني من نوفمبر وسيكون ناجحاً هذه المرة، لأن قطاع الشمال أصبح مؤمناً بالتسوية الدولية عبرالهبوط الناعم والذي يدعمهم في ذلك الإمام الصادق المهدي، الذي ظل ثابتاً في موقفه برؤى ناضجة سياسياً وعملياً بضرورة تعديل نظام الإنقاذ بالتوافق السلمي وهبوط طائرة الإنقاذ الناعم في مدرج التداول السلمي للسلطة الذي يحفظ البلاد والعباد من الفوضى غير الخلاقة، لأنها في حالة السودان لن تخلق شيئاً غير الدمار والموت المستدام الذي لن يرضاه عاقل محب للسودان وترابه، خاصة والمشرئبون للانقضاض على السودان كُثر. نحن الآن حقيقة في فترة انتقالية غير معلنة كما سماها معهد الدراسات الاستراتيجية الأمريكي. والله الموفق.