الكرامة بنت واقعها، وهي أشواق الناس، تتشكل في بيئتهم الطبيعية والاجتماعية.. فمثلاً، في مناخات الجفاف يكون حلم الناس بالخضرة والينابيع، فتطفر أشواقهم تلك في كراماتهم.. في عتمور دنقلا العجوز وهي منطقة صحراوية قاحلة، كان لقاء بين الشيخ حبيب نسي والفقيه الدويحي، وكليهما عاشا في منطقة الشايقية.. يقول ود ضيف الله، إن الدويحي كان «راكباً على بعير وحاقباً قربة عليه، فلما رآه - أي عندما الشيخ حبيب نسي- فرغها في الأرض فقال له: إما أحييني أو أقتلني بالعطش.. فأخذ الشيخ حبيب نسي القربة، فهزها، فامتلأت ماء، فشرب منه حتى وصلت دنقلا.. ولم تقف الكرامة عند هذا الحد، بل تتابع تدفُّق ذلك الماء حتى غدا «بِركة»، تغتسل منها زوجته، وتلد له من بعد، طفلاً يغدو ولياً.. وهذا الطقس يذكِّر أهل الذِّكر بقصة هاجر زوج إبراهيم النبي، ويشبه كذلك عملية «التعميد» عند المسيحيين.. أما التبرير لإراقة الماء الطبيعي، فهو الرغبة في طلب الارتواء برشاش الروح، بسلسبيل الميتافيزيقيا في ألقها، بعبق الكرامة التي يُنجزها بها الولي- أحياناً - لا قهراً للظروف، أو خرقاً للعادة، أو القانون الطبيعي فقط.. بل تحدٍ إن شاء..! وهناك مشهد آخر للكرامة في المناخات الماطرة، حيث تزخر أجواء السّرد بصور البيئة المعشوشبة، المبللة برذاذ المطر، والأرض الخضراء التي تمتليء فيها الخيران بالمياه كما ترى في هذا النص.. «ناس ولد عبد الصادق ملكوا العرب والفونج، أولادو شالوا الدّليب فوق الفيلة من الصعيد إلى السافل.. مسافة ثلاثة أيام أذنابها لينات».. وقبل تفكيك النّص، نشير هنا إلى إشارة ود ضيف الله إلى «سيطرة الأولياء على الحيوان، حيث يشير النّص إلى ما اشتهر به الصّادقاب وعميدهم الشيخ الهميم، من تأديب للأفيال وتطويعها في حمل الأثقال.. إلخ.. أنظر الطبقات، ص 317- 301، يرسم نص الكرامة قسمات بيئة استوائية الملامح، فيها ربع أسرة الصادقاب صاحبة الشأن والسلطة.. وللمقارنة فإن «المندرة»، والتي تقع في بادية البطانة، تبدو الآن في وضع أقرب إلى الجفاف بسبب تبدل المناخ.. وقد كانت في الماضي قلباً لغابات موحشة، والمندرة تعني في ما تعني «المُنضَرة»، أي المرايا.. وبلسان العُجمة الذي كان هو الغالب في ذلك العهد، فقد تم قلب الضّاد دالاً.. والمندرة، أي المرايا، تسمية ذات بعد روحي، إذ تحمل معنى دينياً وارداً في نص الآية: «من اهتدى، فإنّما يهتدي لنفسه»، أي على صفحة المرايا، يرى الرائي/ العابد «نفسه»..! وفي كرامات الصوفية السودانيين، كما هو الحال عند الشعوب الأُخرى، تتلمس ملامح الثقافات القديمة، وشذرات الأحاجي والأساطير وفنون «الحِكمة»، وطقوس السحر والكجور، واستخدامات الطلاسم في ترويض الحيوانات، والسيطرة على أشياء البيئة بأشجارها وزواحفها وطيورها.. وقد كانت البيئة في رعونتها وتوحشها، جزءاً أصيلاً من حياة تلك المجتمعات التقليدية، وكانت الرّوحنة القائمة بشكل واضح في ذهن الأسلاف، هي إحدى حيّل السيطرة على تلك البيئة التي أُتُّخِذتْ منها طواطم وتابوهات.. إذن فالكرامة في نسبتها إلى التصوف، لم تكن ملمحاً دينياً وحسب، بل هي اعتقاد متعدد الوجوه، يحتوي داخله على العقيدة الجديدة، ممثلة في الدين السّماوي «إسلام أو مسيحية أو يهودية»، مع الأسطورة، مع السحر، مع الكجور، مع «كريم المعتقدات» التي يُشار إليها هكذا في بعض الدّساتير، على اعتبار أن كل الطقس القديم ما هو إلا دين بدائي، وأس تاريخي للاعتقاد في «القوّة» التي خلقت الأكوان، في «الله».