قمة الإيقاد الطارئة التي انعقدت في أديس أبابا الأسبوع الماضي، كانت بمثابة البرهان الأوفى والدليل الأبلغ على أن الانفصال أصبح واقعاً وحالة ماثلة، حتى قبل أن يذهب أبناء الجنوب لصناديق الاقتراع، تمثل هذا البرهان والدليل في ذهاب السودان إلى مائدة الإيقاد بوفدين، يقود أحدهما رئيس الجمهورية - ممثلاً للشمال- ويقود الآخر نائبه الأول رئيس حكومة الجنوب، ممثلاً للجنوب، وتجيء قمة الإيقاد وترتيباتها تكريساً لواقعة مشابهة هي مؤتمر نيويورك الذي انعقد منذ نحو شهرين على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومثل فيه النائب الأول الجنوب والحركة الشعبية، بينما مثل فيه النائب الثاني الأستاذ علي عثمان محمد طه الشمال وحزب المؤتمر الوطني الحاكم. موضوعات الخلاف والتفاوض بين الطرفين- حكومة الشمال «المؤتمر الوطني» وحكومة الجنوب «الحركة الشعبية» التي تم بحثها في نيويورك، هي ذاتها التي جرى بحثها في قمة الإيقاد بأديس أبابا، وهي ذاتها التي تم تداولها عبر عشرات الاجتماعات التي عقدتها اللجان بإشراف لجنة الحكماء الأفريقية واجتماعات مؤسسة الرئاسة التي تنعقد بين حين وآخر، عندما يحضر النائب الأول سلفاكير إلى الخرطوم أو عندما يسافر نائب الرئيس علي عثمان إلى جوبا، لا جديد فيها غير تصاعد نبرة الخلاف كلما اقترب موعد الاستفتاء على تقرير المصير، والاتهامات المتبادلة بالخروقات العسكرية في هذا الموقع أو ذاك، أو انتهاك الاتفاقية في هذا البند أو ذاك. مفوضية الاستفتاء بدأت أعمال التسجيل تمهيداً ليوم الفصل(11يناير2011)، فتباين منظر مراكز التسجيل بين الشمال والجنوب، تباطؤ وتجاهل للعملية في مراكز الشمال واحتشاد وتدافع في مراكز الجنوب، وكان ذلك في حد ذاته موضوع اتهامات متبادلة بين الشريكين، «الوطني» يتهم الحركة بتخويف وترهيب الجنوبيين المقيميين في الشمال للحيلولة بينهم وبين مراكز التسجيل، والحركة تتهم المؤتمر الوطني بأنه السبب وراء تقاعس الجنوبيين في الشمال عن الإقدام على التسجيل لخشيتهم من تهديدات أطلقها بعض منسوبيه في أوقات سابقة، بأنهم لو صوتوا للانفصال فإنهم سيفقدون مواطنيتهم والاستمتاع بحقوقهم في الشمال. الوطني يعتبر ضغوط الحركة المفترضة على المقترعين الجنوبيين بمثابة خرق وتبديد لنزاهة الاستفتاء وشفافيته وحريته، التي يراها ضرورية للاعتراف بنتجيته مع علمه المسبق- كما يعلم جميع المراقبين في الداخل والخارج- أنها ستكون الانفصال ولا شيء غير الانفصال، ويدين موقف الحركة المؤيد للانفصال، برغم نصوص اتفاقية السلام الداعية طرفي الاتفاق- الوطني والحركة- للعمل سوياً من أجل جعل الوحدة جاذبة، بينما تتعلل الحركة بأن المؤتمر الوطني هو من أضاع فرصة الوحدة بإهماله العمل من أجلها طوال سنوات الفترة الانتقالية، والدخول معها في صراعات ومشاكسات سياسية وعدم الاكتراث لإعادة الإعمار والتنمية في الجنوب. المؤتمر الوطني يطالب بإنهاء ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب قبل موعد الاستفتاء، وحجته في ذلك أن عدم إكمال ترسيم الحدود، التي تم إنجاز 80% من خرائطها على الورق، سيكون مدخلاً للنزاعات وربما إلى الحروب خصوصاً في المناطق المختلف عليها، وفي مقدمتها «أبيي» بجنوب كردفان وحفرة النحاس بين جنوب دارفور وغرب بحر الغزال. والحركة ترى أن ما تبقى من مناطق مختلف عليها- عدا أبيي- يمكن تسويته خلال الستة أشهر الأخيرة من عمر الفترة الانتقالية التي تنتهي بحلول التاسع من يوليو 2011، وتحتج في ذلك بأن هناك العديد من دول الجوار لم تتم تسوية الحدود معها منذ الاستقلال في 1956م وحتى اليوم، وتضرب المثل بحلايب والمثلث الليبي ومثلث أليمي مع كينيا والحدود الشرقية مع أثيوبيا عند «الفشقة». هناك أيضاً مسائل عالقة من مثل الديون - التي اقتربت الآن بخدماتها وفوائدها من الأربعين مليار- ومثل المواطنة والجنسية، والأصول المشتركة للدولة، وكلها موضع خلاف ورؤى متباينة بين «الشريكين المخالفين»، ففي مسألة الديون- مثلاً- ترى الحركة الشعبية أن تلك الديون لا تخصها في شئ، فهي إما صرفت على التنمية والخدمات في الشمال أو لتجهيز الجيش في حربه ضدها، بينما في موضوع المواطنة تتخذ موقفاً مغايراً وترى أن من حق الجنوبي أن يعيش في الشمال أو الجنوب، ويلقى حقوقاً متساوية في شطري الوطن، حتى بعد انفصال أو «استقلال» الجنوب- بلغة الحركة- في وقت تتراوح فيه مواقف قادة المؤتمر الوطني تجاه هذه المسألة الحساسة، فيصرح بعضهم بعدم أحقية الجنوبي في العيش بالشمال إذا ما اختار الجنوبيون الانفصال، بينما يصرح بعضهم، خصوصاً مراجع الحزب العليا بخلاف ذلك، ويبثون الطمأنينة في نفوس الجنوبيين بحقهم في العيش بسلام والحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم غض النظر عن نتيجة الاستفتاء، وحدة أم انفصالاً. لم تقف الاتهامات والمشاكسات عند هذا الحد، بل بلغت أخيراً حد اتهام «الوطني» للحركة بإيواء قادة الحركات المسلحة في دارفور، بعد أن تمترس كل من مني أركو ميناوي المساعد السابق للرئيس، والقائد الميداني أحمد عبد الشافع في جوبا، وتواترت أخبار عن توجه عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان من منفاه في باريس إلى نيروبي استعداداً لزيارة جوبا، وبعد أن تواترت أنباء أخرى عسكرية بأن حركة العدل والمساواة تقاتل في كردفان ودارفور وتنسحب جنوباً إلى بحر الغزال، ويلقى مقاتلوها وجرحاها المساعدة اللوجتسية والطبية من الجيش الشعبي- الذراع العسكري للحركة، بينما ترى الحركة في وجود هؤلاء بين ظهرانيها أمراً طبيعياً باعتبارهم مواطنين سودانيين من حقهم أن يتحركوا شمالاً أو جنوباً، ما دام السودان لايزال وطناً موحداً. كل هذا وغيره كثير، ينبيء بأن الشريكين الحاكمين شمالاً وجنوباً لا يزالان برغم «اتفاقية السلام الشامل» يفتقران إلى عنصرين هامين، كان يمكن أن يجنبا البلاد هذا التوتر المتفاقم والمتصاعد والذي ينذر بأخطر العواقب، العنصر الأول هو الثقة المتبادلة، والذي يعني غيابه أن كل طرف ينظر للطرف الآخر بعين الريبة والشك في كل ما يفعل وكل ما يقول، لذلك كان بناء الثقة يجب أن يكون متقدماً على توقيع الاتفاقية والأرضية الضرورية التي تبنى عليها. وهذا ما لم يحدث عندما اندفع الطرفان لإبرام الاتفاقية تحت وطأة الضغوط الدولية ورهق الحرب، وإغراء انفراد كل منهما بالتحكم في شطر من الوطن وتغييب القوى السياسية الأخرى، بل محوها إذا أمكن من خريطة الوجود، وقبرها مرة واحدة وإلى الأبد إذا ما تيسر، خلافاً لما سطراه في الاتفاقية والدستور الذي انبنى عليها من تحول ديمقراطي وحريات عامة، وبالتالي تداول سلمي للسلطة، ولم تكن لدى أي منهما الإرادة السياسية أو الرغبة الصادقة في رؤية مثل هذا التداول أو «التغيير» يحدث على خريطة الواقع السياسي. ومع ذلك، نرى أنه لن يفيد أحداً- معارضاً أو حاكماً... متعاطفاً أو كارهاً- أن يرى كل ذلك يحدث أمامه ويقف متفرجاً على الطوفان الذي بدأ يحيط بالوطن من أطرافه. بل على الجميع- غض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الجهوية- أن يساهموا بقدر الإمكان بالرؤى الصائبة والعمل المخلص من أجل تجنب الكارثة وشيكة الوقوع جراء التنازع والخصام بين الشريكين الحاكمين. يجب أن يتداعى الجميع شمالاً وجنوباً بدون شروط أو أجندة خاصة إلى كلمة سواء، تخفف من الغلواء والبغضاء بعد أن أصبح الانفصال أقرب إلينا من حبل الوريد، ونفكر جميعاً مثلاً بمعونة المسيرية ودينكا أنقوك في حل يرضي الطرفين، ويجنِّب المنطقة والبلاد الصدام، ونفكر جميعاً في علاقة جوار«نموذجية» للتعاون الاقتصادي والتواصل والتعايش بين الشمال والجنوب، متخذين من النموذج الأوروبي وحدوده المفتوحة مثالاً، وأن نُخيِّر مواطنينا- شماليين وجنوبيين- في العيش الحر والكريم أينما شاءوا في أرجاء هذا الوطن الفسيح، وبهذا نكون قد حصرنا «أضرار الانفصال» في أضيق الحدود وحصلنا على ما هو أهم:«السلام والاستقرار»، باعتباره الجائزة الكبرى، وربما الوحيدة التي وفرتها لنا نيفاشا.. اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه..