جنّد رئيس تحرير هذه الصحيفة الأستاذ مصطفى أبو العزائم قلمه خلال الأسبوعين المنصرمين للدعوة لشكل من أشكال الوحدة أو الاتحاد مع مصر، وإن هذه الدعوة كما قال «ظلّت في وجدان الشعب زماناً طويلاً وأسست أحزاب تنادي بها إيماناً بالعلاقة المتينة مع الشقيقة مصر بل والتجارب التي مرّت بها منذ الاستقلال» وتساءل فما الذي أقعدها وما الذي جعلها تكون ليست من أولويات أبناء الشعب السوداني؟ وأجاب بأن ذلك هو وحدة الوطن والسعي لعدم انفصال الجنوب لحساسية أبناء الجنوب من تحديد «هوية عربية إسلامية» للسودان، فكم ضحى الشعب السوداني في الشمال بأي تقارب مع مصر أو أي دولة عربية أخرى من أجل عيون الجنوب، حسبما كتب في زاويته «بُعد ومسافة» في يوم 25 نوفمبر 2010م. ومضى الأستاذ أبو العزائم أكثر من ذلك في «جدّية دعوته» بأن استطلع آراء ساسة ومسؤولين وقراء حشداً لتأييد الفكرة، بينهم صديقي الاتحادي الأستاذ صديق الهندي والمستشار الرئاسي عبد الله مسار وآخرين. وهذا بعض دأب أبو العزائم المعهود عندما يقتنع بفكرة ما فيتحمّس لها وينطلق لا يلوي على شيء في سبيل إنجازها. وكنت قد طرحت نفس الفكرة على صفحات «آخر لحظة» في زاويتي «إضاءات» تحت عنوان: «المصريون في الجزيرة.. لعلها مقدمة لوحدة وادي النيل الشمالي بتاريخ 8 سبتمبر 2010م، ولكني كما قلت حينها: «لا أدعي بأن الكلمات التالية تنطوي على أي قدر من الجدّية، لكنّها في حقيقتها تُعبّر عن بعض خيال هو وليد المعاناة التي نعيش تحت ظل سيف الانفصال المرتفع في سماء الوطن، وطنٌ حاله كمن لفت أنشوطة المشنقة حول عنقه في انتظار أن يسحب جلاده مزلاج الدكة الحديدية التي يقف فوقها إيذاناً بفصل الرأس عن الجسد» وأشرت الى أن ما حفّز مخيلتي وحلّق بها بعيداً في عالم «أحلام اليقظة» هو خبر نشرته الصحف السودانية حينها يقول بتواثق الخرطوموالقاهرة على زراعة (مليون فدان) بمشروع الجزيرة بمحاصيل في مقدمتها القمح والذرة والبنجر. وإلى أن «صفقة الجزيرة الزراعية المصرية/السودانية» تأتي في وقت أصبح خيار الانفصال هو الراجح بعد أن أعلنت النُخبة الجنوبية المُتنفّذة في الإقليم أن الانفصال هو الحقيقة التي على السودانيين - شمالاً وجنوباً- أن يهيئوا أنفسهم لقبولها. وذهبت في التأسيس لهذا «السيناريو الخيالي» إلى القول: بما أن السودان كان قبل استقلاله يُعرف ب«السودان الإنجليزي-المصري» برغم أن انجلترا كانت تحكم البلدين وتتحكم في كل شيء ابتداءً من قصر الخديوي في القاهرة وانتهاءً ببيت آخر ناظر في البطانة وشرتاي في بطاح دارفور، وبما أن الحركة الوطنية السودانية انقسمت لأول عهدها إلى طائفتين وجبهتين، إحداهما «استقلالية» والأخرى «اتحادية» تؤمن بوحدة وادي النيل، وبما أن السودان قد قضى وطره من الرؤى «الاستقلالية» التي لم تزده إلا خبالاً، فلم يعرف الاستقرار وتعثّرت التنمية وانحصرت على مدى أكثر من نصف قرن فيما لا يزيد عن 10 في المائة من مساحته البالغة مليون ميل مربع -هذا إذا ما تحلينا بروح التفاؤل طبعاً- وقلت: بما أن درجة التعليم والوعي السياسي في البلاد بلغا درجة لا بأس بها، وبلغ مُعظم السودانيين عبر تجارب الصراع والنزاع والحروب مرحلة نضج لا يمكن معها لأي كان أن «يخمّهم» أو يتغوّل على حقوقهم. وبما أن ذلك كله قد حدث، فلماذا لا نُفكّر -كما فكر الأخ أبو العزائم لاحقاً و«أخد الموضوع جد» في تطوير «اتفاقية الحريات الأربع» لمرحلة أكثر تقدماً بإعلان اتحاد كونفيدرالي أو حتى اتّحاد فيدرالي بين مصر و«السودان الحيفضل» لنقيم «ولايات وادي النيل المُتّحدة» بين الأقاليم الشمالية والنيل الأزرق والأبيض والبحر الأحمر وكردفان ودارفور، بالإضافة إلى مصر «بحري وصعيد» وأن يكون ذلك مقدمة لمشروع وحدة مفتوح، يمكن للجنوب المنفصل أن ينضم إليه في وقت لاحق بعد أن «يُجرّب الاستقلال» ويتذوق طعمه ويختبر تبعاته حتى يأتي طوعاً، وحباً وكرامة، للالتحاق بكيان «ولايات وادي النيل المُتّحدة». وقلت: إنه إذا ما قام هذا المشروع (الخيالي) -من باب الخيال العلمي- فإن عدد سكانه سيفوق المائة مليون (80 مليون مصري+25 مليون سوداني) هم سكان الولايات الشمالية، ليكون بذلك أكبر كيان في مجمل العالم العربي من حيث المساحة والطاقة البشرية والعلمية والعسكرية والموارد المُتاحة للاستغلال، وسيكون هو الترياق الواقي من التفتت والتمزّق الذي قد يترتب على انفصال الجنوب. خصوصاً إذا تمكنّا من إقناع الأقاليم الطرفية في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور بقبول المشروع. محاذرةً، وحتى لا يأخذني أحد على مأخذ الجد، أكدت في خاتمة تلك (الإضاءة) أنها «خاطرة وفكرة عابرة طافت بذهني وأنا غارق في تأمل الصور المُفزعة التي تتراءى أمام عيوننا ونكاد نسلمها بأيدينا مع اقتراب التاسع من يناير المقبل حفزها وآثارها -كما قلت- خبر المليون فدان التي يزمع المصريون استزراعها بمشروع الجزيرة. وهي محاولة لتسرية النفس المأزومة عبر (الخيال العلمي)، والخيال العلمي هو ما قاد العالم لاكتشاف الفضاء الخارجي وأوصل الإنسان إلى القمر. فعلى الأقل فإن خيالنا هنا ليس بلا جذور ضاربة في عمق هذه الأرض وتاريخها». وبرغم «مشروعي الخيالي» الذي بثثته في تلك «الإضاءة» فإنني، وأيم الحق، فوجئت بدرجة «الجدية» التي طرح بها الأستاذ أبو العزائم فكرته، كما لفت نظري رؤيته لدوافع قيام مشروع الوحدة مع مصر التي لم يحدد لها شكلاً أو إطاراً، فمن بين ما استوقفني في رؤيته تلك قوله: «ورغم أننا أعضاء في الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي إلا أننا ظللنا بين هويتين، كنّا نظن أنّها تنوع مطلوب ولكن للأسف ظلّت هويتنا العربية والإسلامية سيفاً مسلطاً علينا نهدد به كل حين ونتخلى عنها من أجل إخواننا في الجنوب وما هو مقابل هذه التضحيات من إخواننا؟ جوابه: صفر!.. والآن دعوة للانفصال رغم التضحيات الأخرى ضمن اتّفاقية نيفاشا» فاستغربت أولاً لإقحام أبو العزائم لجدل (الهوية) في دعوته، أما ما هي التضحيات التي قدمناها «تخلياً عن هذه الهوية» فهذا ما لا أعلمه ولا أظن غيري من المراقبين للتطور السياسي في السودان يعلمونه، بل على العكس من ذلك فإن شكوى الجنوبيين الرئيسة التي أسسوا عليها تمردهم -سابقاً ولاحقاً- هي أن «الدولة السودانية» في كل العهود، وخصوصاً في هذا العهد، لا تُعبّر عنهم بل تُعبّر عن «الهوية العربية-الإسلامية» التي رأى الأستاذ أبو العزائم أنه قد تمت التضحية بها! من زاوية أخرى فإن «جدل الهوية» يجب عدم إقحامه - بل استبعادهُ- في أي مشروع وحدوي أو اتحادي في وادي النيل، فقطاعات كبيرة في مصر تختلف وتقتتل فكرياً عندما تطرح هوية مصر العربية-الإسلامية، مثل الأقباط والنوبيين في صعيدها، بل أكثر من ذلك وبرغم عضوية السودان بالجامعة العربية فإن كثيرًا من عامة المصريين لا يرون في السودانيين الشماليين -ناهيك عن الجنوبيين- عرباً. مما يجعل من الاتحاد المطلوب اتحاداً طوعياً يقوم على المصالح الحقيقية الاقتصادية والسياسية والأمنية وليس تجمعاً لهوية دينية أو عرقية، وإلا لأصبح سبباً للمزيد من الفرقة والتنازع. هناك بُعد آخر لم يتوقف عنده الأستاذ أبو العزائم في إطار دعوته «المستعجلة» للاتحاد أو الوحدة المصرية السودانية، وهي أن هناك هوة كبيرة في «الفهم والتفاهم» بين المصريين والسودانيين، والنظرة الاستعلائية لدى بعض المصريين -وليس جميعهم طبعاً- تجاه السودانيين، تلك الهوة التي جعلت زميلنا الراحل الأستاذ حسن ساتي -رحمه الله- يُدبّج عشرات المقالات بهذه الصحيفة تحت عنوان «شدوا حيلكم» في محاولة لتقويم وتسديد هذا الفهم والتفاهم، ومثل هذا التفاهم ضروري وحاسم «لتسليك» أي تعاون أو اتحاد مستقبلي. ملاحظة ثالثة وأخيرة، تتّصل بالرؤى السياسية للنظامين القائمين في مصر والسودان. ففي مصر كما في السودان يحكم ويتحكّم في البلاد حزب واحد استولى على السلطة عبر انقلاب وطرح خلال مسيرته الطويلة من الحكم المنفرد هامشاً «محكوماً ومتحكماً به» من الديمقراطية، ففي كلا البلدين ليس هناك فرصة مواتية لقرار نابع من الإرادة الحرة للشعبين حول الاتحاد أو الوحدة في ظل هذه الديمقراطيات المحدودة، مما يجعل أي محاولة في هذا الاتجاه تعتبر بمثابة «اتحاد نُظم» وليس اتحاد شعوب. دون أن ننسى في هذه الملاحظة الأخيرة أيضاً الاختلاف والتباين السياسي بين رؤى الحزب الحاكم في مصر الذي لا يزال يحظر قانوناً حركة الإسلامي السياسي -الإخوان المسلمون- وهي ذات الحركة التي تمثل قلب النظام الحاكم في السودان، برغم اختلاف المُسميات، واستقلاليتها التنظيمية، وليس الفكرية، عن «الحركة الأم» في مصر، وهذه مشكلة لا يمكن تجاوزها إلا بتخلي أحد النظامين عن نهجه السياسي. ونختم بالقول، إنّ اتّحاد جمهوريات وادي النيل حلم جميل، تهفوا له الأفئدة ويستطيبه المزاج العام للمثقفين، بما فيهم كاتب هذه السطور، لكن تقف أمامه عقبات ومشكلات عديدة في الواقع الراهن. هو حلم يقظة أو خيال علمي للمستقبل، أما متى يتحوّل إلى حقيقة.. فالله وحده أعلم!