لا ادعي أن الكلمات التالية تنطوي على أي قدر من المطالبة الجدية، أو الأفكار القابلة للتطبيق بشكل فوري، لكنها في حقيقتها تعبر عن بعض خيال هو وليد المعاناةالتي نعيش تحت ظل سيف الانفصال المرتفع في سماء الوطن، وطن حاله كمن لُفَّت أنشوطة المشنقة حول عنقه في انتظار أن يسحب جلادوه مزلاج الدكة الحديدية التي يقف فوقها إيذاناً بفصل الرأس عن الجسد. ما حفّز مخيلتي وحلّق بها في عوالم أحلام اليقظة خبرٌ نشرته صحف الأمس يقول بتواثق الخرطوموالقاهرة على زراعة (مليون فدان) بمشروع الجزيرة بمحاصيل في مقدمتها القمح والذرة والبنجر، أعلن ذلك وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري أمين أباظة الذي قال أيضاً إنه تم الانتهاء من وضع جميع الأطر القانونية اللازمة للاتفاق الموقع مع وزير الزراعة والغابات السودانية عبد الحليم المتعافي، بحضور وزيرة التعاون الدولي المصرية فايزة أبو النجا ووزير التعاون الدولي السوداني التيجاني صالح. هناك تفاصيل أخرى، حواها بشكل خاص، الخبر الموسع الذي نشرته الزميلة «الصحافة» تستحق المناقشة حول الجدوى الاقتصادية للمشروع وحقوق المزارعين السودانيين، خصوصاً والاتفاقية تخصص نصف مساحة مشروع الجزيرة البالغة مليوني فدان لهذه «الصفقة الأخوية»، وذلك حديث آخر سيأتي في حينه بعد الوقوف على المعلومات المتعلقة بالصفقة من باب «الحساب ولد»، ولكننا نقفز على هذا الآن لنسبح قليلاً مع الخيال الذي أوحى به الخبر. فصفقة الجزيرة الزراعية -المصرية/السودانية- تأتي في وقت أصبح خيار الانفصال هو الراجح، بعد أن أعلنت النخبة الجنوبية المتنفذة في الإقليم أن الانفصال هو الحقيقة التي يجب على السودانيين -شمالاً وجنوباً- أن يهيئوا أنفسهم لقبولها، رجحها الصديق دينق ألور ب(70) في المائة، وأعلن باقان أموم أنه لا سبيل لتغليب خيار الوحدة في الشهورالأربعة المتبقية على موعد الاستفتاء في حديثه بمنتدى «أخبار اليوم»، كما أسرّ الفريق سلفا كير للصادق المهدي بأنه «كان وحدوياً ولكنه الآن انفصالي» كما أبلغ الإمام مستمعيه في فطور رمضان بداره يوم الخميس الماضي. وبما أن الحركة الشعبية هي صانعة القرار بالجنوب وموجهة الرأي العام هناك بامتياز، كما ثبت في الانتخابات الأخيرة، فيمكن القول باطمئنان أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف فيما يتصل بحكاية «الوحدة جاذبة»، مثلما أعلن كير يوم تنصيبه على مقبرة جون قرنق أن «وقتها قد فات». وبما أن السودان كان قبل استقلاله يُعرف بالسودان «الإنجليزي المصري»، برغم أن إنجلترا كانت تحكم البلدين عملياً وتتحكم في كل شيء فيهما ابتداءاً من قصر الخديوي في القاهرة وانتهاءاً ببيت آخر ناظر في بادية البطانة أو شرتاي في بطاح دارفور. وبما أن الحركة الوطنية السودانية انقسمت لأول عهدها إلى طائفتين وجبهتين، إحداهما «استقلالية» والأخرى «اتحادية» تؤمن بوحدة وادي النيل، وبما أن السودان قد قضى وطره من «الرؤى الاستقلالية» التي لم تزده إلا خبالاً، فلم يعرف الاستقرار وتعثرت التنمية فيه وانحصرت على مدى أكثر من نصف قرن فيما لا يزيد عن (10) في المائة من مجمل مساحته البالغة مليون ميل مربع -قبل الانفصال المنتظر- وبما أن درجة التعليم والوعي السياسي في البلاد بلغ درجة لا بأس بها، وبلغ معظم السودانيين عبر تجارب الصراع والنزاع والحروب مرحلة نضجٍ لا يمكن معها لأي كان أن «يخمهم» أو يتغول على حقوقهم. بما أن ذلك كله قد حدث، فلماذا لا نفكر مثلاً في تطوير اتفاقية الحريات الأربع لمرحلة أكثر تقدماً، بإعلان علاقة كونفيدرالية أو حتى اتحاد فيدرالي بين مصر و«السودان الحيفضل»، لنقيم «ولايات وادي النيل المتحدة»، بين الأقاليم الشمالية لتشمل المديريات السابقة، الشمالية والنيل الأزرق والأبيض والبحر الأحمر وكردفان ودارفور، بالإضافة إلى مصر «بحري وصعيد»، وأن يكون ذلك مقدمة لمشروع وحدة مفتوح، يمكن للجنوب (المنفصل) أن ينضم إليه في وقت لاحق بعد أن «يجرب الاستقلال» ويتذوق طعمه، ويختبر تبعاته، حتى يأتي طوعاً، حباً وكرامة، للالتحاق بكيان «ولايات وادي النيل المتحدة». إذا ما قام هذه المشروع (الخيالي) -من باب الخيال العلمي- فإن عدد سكانه سيفوق المائة مليون -80 مليون مصري+25 مليون سوداني-، هم سكان الولايات الشمالية، ليكون أكبر كيان في مجمل العالم العربي من حيث المساحة والطاقات البشرية والعلمية والعسكرية والموارد المتاحة للاستقلال. وسيكون هو الترياق الواقي من التفتت والتمزق الذي قد يترتب على انفصال الجنوب، خصوصاً إذا ما تمكنا من إقناع الأقاليم الطرفية في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور بقبول المشروع. وحبذا لو كرسنا الشهور الأربعة المتبقية على الاستفتاء بجهد في إطار تطوير اتفاق الحريات الأربعة، تهيئة لمشروع «ولايات وادي النيل المتحدة»، جهد يوازي الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، من أجل استفتاء آخر يشمل كل السودانيين والمصريين من أجل تطوير العلاقة بين شطري وادي النيل لصنع مصير أفضل أساسه الاتحاد وتبادل المصالح والانفتاح وتخطي حواجز الحدود من أجل غدٍ أفضل. هي خاطرة وفكرة عابرة طافت بذهني وأنا غارق في تأمل الصور المفزعة التي تتراءى أمام عيوننا ونكاد نلمسها بأيدينا مع اقتراب التاسع من يناير المقبل، حفّزها وأثارها كما قلت خبر «المليون فدان» الذي يزمع المصريون زراعته بمشروع الجزيرة في قلب السودان. هي محاولة لتسرية النفس المأزومة عبر «الخيال العلمي»، والخيال العلمي هو ما قاد العالم لاكتشاف الفضاء الخارجي وأوصل الإنسان إلى القمر، فعلى الأقل فخيالنا هنا ليس بلا جذور ضاربة في عمق هذه الأرض.