السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنوع الثقافي والأمنية العذراء: خَيْبَة القادة والعقول الراكدة ... بقلم: عبد الله الفكي البشير


(6-7)
خلاصة الحلقة السابقة:
شهد العقد الرابع من القرن الماضي، خروج المثقفين من جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية بمزاج صفوي، وحالة انقطاع عن الجماهير. بدأ المثقفون المواجهة والمجاهدة من أجل انتزاع القيادة الشعبية من الزعماء الدينيين، ونادوا بتحرير الفكر وانطلاقه من قيود العادات ورواسب التقاليد الفاسدة وأوهام الخرافة التي ليست من الدين في شئ، وأرادوا أن يكونوا هم أصحاب المبادرات، وقادة السودان المستقبليين. ولكن التحديات كانت أكبر، فالإدارة الإستعمارية احكمت الطوق عليهم، ودفعت بغير المتعلمين لتقدم الصفوف وتولي القيادة. أيضاً، كانت الإدارة الإستعمارية قد غرست التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين "الختمية" و "الأنصار" وبين زعيميهما، وقد تسرب ذلك التنافس -فيما بعد- إلى عقول المثقفين ونفوسهم. صاحب هذا، تمكُن الطائفية ورسوخها، ونجاح قياداتها في احتواء الجيل الحديث، واستقطابه، واجهاض مبادراته، وتكبيله بالقيود الدينية. تبع ذلك إنهاء المواجهة بين المثقفين والقيادات الدينية، وتحويلها من ثقافة سائدة لدى الجيل الحديث، إلى عمل قلة قليلة، نُبذت هذه القلة فيما بعد وحيكت حولها المؤامرات، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.
كان قيام "مؤتمر الخريجين" في فبراير 1938م، بعد توقيع اتفاقية 1936م، ومع نشوب الحرب العالمية 1939م-1945م، دلالة على تجمع الوعي القومي، كما مثَّل مرحلة جديدة في تطور الحركة الوطنية السودانية. بدأ تكوين المؤتمر مع تغير في موقف الإدارة الإستعمارية تجاه المثقفين، ففي عام 1934م تم تعيين حاكم عام جديد للسودان هو سير ستيوارت سايمز، ولحق به سير دوقلاس نيوبولد سكرتيراً إدارياً عام 1939م، وهو من الداعمين للتعامل مع المثقفين. تبنت الإدارة الإستعمارية سياسة جديده قوامها إشراك المتعلمين في الإدارة. في هذا المناخ الجديد بدأ "مؤتمر الخريجين" تنظيم دوراته، وتطور عمله إلى مرحلة المواجهة والمصادمة، حيث خرجت من دورته الخامسة مذكرة الخريجين عام 1942م التي طالبت الإدارة البريطانية بحق تقرير المصير بعد الحرب. ولكن سرعان ما برز انقسام الخريجين، وصراعاتهم، ودخل النفوذ الطائفي والديني الذي تسرب في وسط المثقفين منذ اضراب الطلبة –طلبة كلية غردون- في أكتوبر عام 1931م. امتص النفوذ الطائفي مبادرات المثقفين، وظهرت الخلافات بين المثقفين منذ تكوين "مؤتمر الخريجين" عام 1938م، وحيكت المؤامرات، فاصبحت "مؤتمر الخريجين" مسرحاً للصراع بين التجمعات والطوائف الدينية، يقول الشيخ على عبدالرحمن الأمين (1906م- ؟؟؟): (ولما فكر الخريجون "خريجو مدارس السودان" في تأسيس المؤتمر ... استطاعوا أن يكوِّنوا المؤتمر بعيداً عن التنافس القائم بين السيد على الميرغني (73/79/1880-1968م) وأتباعه، والسيد عبدالرحمن المهدي (1885م-1959م) وأنصاره) . إلا أن روح التنافس الطائفي المحموم قد سرت في المؤتمر، ورويداً رويداً غاب دوره وفقد قيمته كمبادرة من المثقفين، تسعى لتحرير البلاد والنهوض بها. ومع منتصف أربعينيات القرن الماضي، والحرب العالمية تضع أوزارها عام 1945م، ظهرت الأحزاب، "الاشقاء" عام 1944م، حزب "الأمة" عام 1945، الذي تعود جذوره إلى ما قبل ذلك التاريخ، وحول "الاشقاء" و "الأمة" تبلورت الحركة السياسية الوحدوية والاستقلالية.
الأحزاب: حيث الأسْوأ مثل الأفضل
مهرجان تكوين الأحزاب
(لا ندعو لمحاكمة الماضي بل نلح على قراءته بوعي نقدي يستنطق الأحداث بهدف سبر أغوار المجتمع للتعرف على القيم التي تمتلكه، والمفاهيم التي سيطرت عليه) الدكتور منصور خالد
من الملاحظات الأوليه حول مهرجان تكوين الأحزاب- كما سماه الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م)- في منتصف أربعينات القرن الماضي، أن جمعية اللواء الأبيض لم تكن حاضرة كحزب سياسي في ذلك المهرجان، برغم الإرث النضالي لثورة 1924م، وما أحدثته من تغيير وصدى. لقد عزى الدكتور حسن عابدين ذلك لعدة أسباب قائلاً: (ويعزى فشل جمعية اللواء الأبيض في التحول إلى حزب جماهيري إلى أن الجمعية لم تسع إلى التحالف مع القبيلة أو الطائفية الدينية ولم ترغب فيه، وهما المصدران الرئيسيان للتبعية الجماهيرية في السودان، كما أن تعاون زعماء القبائل والزعماء الدينيين مع الإدارة الاستعمارية وعداءهم الواضح أو المفتعل لمصر قد قضى قضاءاً تاماً على مثل هذه الاحتمالات...) .
تجدر الإشاره، إلى أن غرضي لا ينصب على تقييم ثورة عام 1924م، وإنما على ما ترتب على إخمادها. لقد قدم كثيرون تقييماً لثورة 1924م، منهم السيد عبدالرحمن المهدي، وقد أوردت تقييمه في الحلقة السابقة، وقدم الشهيد عبدالخالق محجوب (1927م-1971م) تقييماً لثورة 1924م، قائلاً: (فقد كان شعار الجمعية والثورة التي فجرتها هو (وحدة وادي النيل) يعبر عن العجز السياسي والاقتصادي للطبقة الوسطى السودانية، أكثر من التعبير عن رغبة الجماهير الشعبية في الانعتاق من عسف الاستعمار البريطاني. كما أن حركة 1924م كانت خالية من أي برنامج يكن بمقتضاه تعبئة الجماهير وحملها على الانضمام إليها، إذ أن البرامج في مجمله لم يخرج عن ترديد ألفاظ الحرية ووحدة وادي النيل وعاشت مصر، أما المستقبل الذي يمكن أن تلقاه الجماهير من نظم ديمقراطية للحكم وتقدم اقتصادي واجتماعي، فأمور كانت مهملة من جانب تلك الحركة. وكان تنظيم الحركة ضعيفاً وغير متسع في المستوى المطلوب لمجابهة الاستعمار. كانت به بعض العناصر الخائنة التي اتهمت بنسفه والتآمر على أعضائه) .
كان زمام الأمور في مهرجان تكوين الأحزاب لدى القيادات الطائفية والدينية. وكانت مبادرات المثقفين الفكرية والسياسية ضعيفه، إذ لم تتطور تجمعاتهم الثقافية والفكرية (جماعات القراءة في الأحياء والجمعيات الأدبية)، إلى تنظيمات سياسية. كانت تلك التجمعات تمثل مبادرات قابلة للتطوير، مثل جماعة أبو روف، وجماعة الهاشماب وغيرها، التي ابتكرها المثقفون بعد ثورة 1924م، واتخذوا منها ملتقيات للتحاور والتعلُم الذاتي. لقد أوجدت تلك التجمعات روابط وصلات قوية بينهم. يقول أحمد خير المحامي (حوالي 1905م-1995م): (وكانت هذه الجماعات تلتقي في المنازل، فازدهرت بمنأي عن الرقباء، ثم تطورت حتى صارت مدارس فكرية قامت بين أعضائها زمالة...). على الرغم من ذلك لم تتطور هذه المبادرات، ولم يتماسك الذي تطور منها إلى أحزاب سياسية، بما في ذلك "مؤتمر الخريجين"، الذي قام 1938م.
كانت جماعة مدرسة أبو روف قد أسست حزب "الاتحاديون" عام 1944م، ونادوا بالإتحاد مع مصر، وكان لهم موقف محدد من الطائفية. وعبر خضر حمد (1908م-1970م)، أحد مؤسسي الحزب، عن رأيه في الطائفية قائلاً: (إن الطائفية هي وكر الاستعمار وسنده، وفي نفس الوقت سلاحه الذي يحارب به في ميادين عديدة...)، ولكن انتهى بهم المطاف في الطائفية. كما نشأ حزب الأحرار عام 1944م، وهم مجموعة انشقت من الأشقاء عام 1943م، ودعوا إلى اتحاد فدرالي مع مصر. ثم انقسموا عام 1945م، إلى أحرار انفصاليين وأحرار اتحاديين. وذاب الانفصاليون في حزب الأمة، وظل الأحرار الاتحاديون في المسرح حتى ذابوا في الحزب الوطني الإتحادي عند تكوينه عام 1952م . ونشأ حزب القوميون في عام 1944م، على أسس ومبادئ تميل للابتعاد عن مصر وإن لم تنص في وضوح وصراحة على استقلال السودان. وتنص مبادؤهم على "تحديد فترة انتقال" يتسلم في غضونها السودانيون زمام الحكم، ومن ثم ينتهي الوضع الحالي –الحكم الثنائي- وتقوم حكومة سودانية ديمقراطية تحدد الوضع السياسي للبلاد وتعمل على تقرير مصيرها. قام حزب القوميون على أكتاف من بقي من "مدرسة الفجر" وتأرحج بين الوجود والتلاشي، وأخيراً تلقفته أمواج حزب الأمة. كما نشأ حزب وحدة وادي النيل عام 1946م، وكان أكثر الأحزاب السودانية تطرفاً في التمسك بوحدة مصر والسودان. وفي عام 1945م ائتلفت ثلاثة أحزاب، هي الاتحاديون والأشقاء وحزب الأحرار ودعوا إلى تقرير المصير بموجب ميثاق سياسي نص على: "قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري" . وفي عام 1946م تكون أول تنظيم شيوعي في السودان باسم "الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو)، من حلقة صغيرة من المثقفين والطلبة وحفنة من العمال. وقد لعبت المنظمات الشيوعية، دوراً في دفع الحركة الشيوعية في السودان. اشتمل دستور "حستو" على النضال ضد المستعمر البريطاني وحق الشعب في تقرير مصيره. وصاغت حستو شعار "الكفاح المشترك بين الشعبين السوداني والمصري"، بديلاً لشعار وحدة وادي النيل تحت التاج المصري .
غاب عن مهرجان تكوين الأحزاب الكثير من مبادرات المثقفين القابلة للتطوير والنمو، فقد كان بعض تلك المبادرات ينادي ببناء الأمة السودانية، انطلاقاً من تاريخ السودان وواقعه. إلا أن تلك المبادرات أجهضت بسبب الاستقطاب الطائفي للمثقفين، وقبول المثقفين بالتحالف مع الطائفية، إلى جانب تفشي ثقافة الصراعات والمؤمرات. يقول الدكتور محمد سعيد القدال مشيراً للمؤامرات: (وكان جماعة الأبروفيين قد تعلموا من الدورات السابقة، أن العمل الانتخابي لا يأتي من مواقع الصفوية الثقافية وعلو الفكر، وإنماء هو جهد تنظيمي ومناورات بل ومؤامرات. فتحالفوا مع جماعة الهاشماب...) . أيضاً كان الصراع بين المثقفين حول مفهوم الهوية والذاتية السودانية، والحماس الشديد إلى ربط القومية السودانية بالعروبة والإسلام، قد أدى إلى غياب أصوات وأصحاب مساهمات جليلة مثل محمد عشري الصديق (1908م-1972م) وغيره، ممن كانوا يرون عدم موضوعية الاحتفاظ بالصلة العروبية الإسلامية. وكتبوا كثيراً ينادون بضرورة التركيز على بناء الأمة السودانية. كان محمد عشري الصديق قد كتب عام 1929م، متحدثاً عن إمكانية أن تكون شعوب السودان أمة، قائلاً: (فلا اختلاف أديانه، ولا اختلاف عادته، ولا اختلاف شعوبه، ولا اختلاف أجوائه وظروف المعاش فيه بحائلة دون تحقيق الأمنية العذراء، وليس يمكن أن تكون الأمم في بدء تكوينها غير ذلك: فالمصالح المشتركة، والتفاهم المتبادل، وأحداث التاريخ، تقرب شقة الاختلاف، وتصل الأبعدين برباط متين) .
شهد مهرجان تكوين الأحزاب السودانية، المنافسة والصراع المحموم بين المثقفين. كانت المنافسة والصراع قد غرستهما الإدارة الإستعمارية بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما، وتسربا إلى نفوس وعقول المثقفين. تجلي الصراع في المؤمرات والمناورات والعمل الفوقي، ومن ثم اصبحت هذه التجليات من أهم سمات الممارسة السياسة السودانية، منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. أيضاً، كان السقف الفكري لمهرجان تكوين الأحزاب السودانية، هو سقف الطائفية الفكري، وهو سقف خفيض، تبعه محاربة للمبادرات التي قدمها مثقفون خارج اطار الطائفية، وتجاوزوا بها السقف الفكري للطائفية. كان من هذه المبادرات مبادرة الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) فى عام 1945م، بإنشاء الحزب الجمهوري، مع ثلة من رفاقه، اقترح تسمية الحزب أمين مصطفى التّنى، اشارة لمطالبتهم بقيام جمهورية سودانية مستقلة عن دولتى الحكم الثنائى، وقد أُختير الأستاذ محمود رئيسا للحزب، وعبد القادر المرضى سكرتيراً له . لقد أفرد الأستاذ أحمد خير المحامي في كتابه: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان: كفاح جيل عنواناً جانبياً للحديث عن الحزب الجمهوري وآخر لحزب الأمة، إذ تناول في الفصل الخامس من كتابه نشأة الأحزاب فتناول حزب الاتحاديون والأشقاء وحزب الأحرار وحزب وحدة وادي النيل والقوميون، وإئتلاف تقرير المصير، الذي وردت الإشاره إليه. قال الأستاذ أحمد عن الحزب الجمهوري: (ولما وضحت معالم الخلاف واشتد وطيسه بين الاتحاديين والانفصاليين، نشأ الحزب الجمهوري، وهو حزب ينادي باستقلال السودان من مصر وانجلترا على السواء، وقيام جمهورية سودانية... لقد برهن رجال الحزب الجمهوري على صدق عزيمتهم وقوة إيمانهم لذلك يتمتعون باحترام الجميع، كما برهن رئيسهم "الأستاذ محمود" على إخلاص وصلابة وشدة مراس، ولعل هذه الأسباب نفسها مضافة إلى اختلاف أهدافهم هي التي جعلتهم يقفون في عزلة وانفراد، غير أن شدة العداء بين الجمهوريين وحزب الأمة، قدم دليلاً جديداً لعله أقطع الأدلة على انطواء الأخيرين على فكرة الملكية، فالحزبان استقلاليان، ولما لم يكن بين الجمهورية والملكية توسط كان من البديهي أن تقوم المكية في الجانب الثاني بعد أن قامت الجمهورية في الأول وإلا لما كان هناك مجال لعدم التعاون أو الاندماج) .
الشاهد أن المثقفين دخلوا مهرجان تكوين الأحزاب، الذي تمحور حول الوحدوية والاستقلالية، تحت سقف فكري خفيض. وهو سقف لا يتناسب مع تاريخ السودان الطويل، ولا يقارب واقعه الثقافي المتنوع، وليس فيه تمثيل حقيقي للثقافات السودانية، سوى الثقافة العربية الإسلامية، وبهذا يكون مهرجان تكوين الأحزاب السودانية قد بنى جداراً سياسياً عازلاً بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافات السودانية الأخرى. وبالتالي جداراً سياسياً عازلاً بين شعوب السودان من جهة، وبين شعوبه وقادته من جهة أخرى. وقد برز ذلك بشكل واضح في مفاوضات تقرير المصير الوطني، وابعاد الجنوبيين منها. يقول الدكتور فرانسيس دينق في كتابه: صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان: (بإعادة النظر، نجد أن القومية السودانية قد عانت من حدثين رئيسيين أو تطورين هامين أحدهما، ابعاد الجنوبيين من مفاوضات تقرير المصير الوطني، وثانيهما فشل "الأخوان الجمهوريين"، بأن يكون لهم تأثير هام في الاتجاهات السياسية في البلاد. بالنسبة للحدث الأول، فإذا ما حدث وتم اشراك الجنوبيين بشكل أكبر في عملية اتخاذ القرارات المؤدية للاستقلال لكان من الممكن غالباً، ضمان مساعدتهم في تطوير الترتيب الذي كان من الممكن أن يكون أكثر عدلاً في تقبل التنوع داخل الوحدة. ولو تحققت خلال فترة من الزمن حرية الحركة في البلاد والتعامل بين الجنوبيين والشماليين في أجواء من السلام والأمن، والانسجام النسبي، لكان ممكناً حينها دعم التكامل والاحساس بالهوية الوطنية. كان لابعاد وعزل الجنوبيين، خاصة في المرحلة النهائية لعملية تحقيق الاستقلال، جر البلاد في طريق جائر وصدامي دفين متوارث...) .
أقف هنا، وفي يوم الخمس القادم أواصل حديثي، حول الصراع المحموم الذي أصبح سمة المسار السياسي، ومرتكز الممارسة السياسية السودانية. تعود جذور ذلك الصراع والتنافس المحموم -كما ورد آنفاً- إلى الإدارة الإستعمارية، حينما غرسته بين الطائفتين الدينيتين "الختمية" و "الأنصار" وبين زعيميهما، وتسرب فيما بعد إلى عقول المثقفين ونفوسهم، فتحكم في حياتهم ومساهماتهم. وحينما دخلت النظريات (الشيوعية والأخوان المسلمون، والبعثيون)، وجدت ذلك الإرث من الصراع السياسي، كما رحب المثقفون بها مع حماس زائد، صاحبه إطمئنان إلى القناعات الفكرية التي طرحتها تلك النظريات. ونتيجة للحماس الزائد وإرث الصراع المتراكم، والطمأنينة إلى القناعات الفكرية، والرغبة المتعجله في التغيير، أخذ ذلك الصراع مناحي جديدة وخطيرة. ظل السودان وشعوبه منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ضحية لصراع الطوائف أولاً، ومن ثم صراع النظريات. تحكمت تلك الصراعات في مسار السودان، وأضعفت مساهمات مثقفيه، وأهدرت طاقاتهم، وأفقدت شعوب السودان خيار أبنائها، ولم تظفر تلك الشعوب إلا بخراب مؤسساتها ذات العائد التنموي (مشروع الجزيرة، هيئة السكك الحديد...إلخ)، وفساد إرثها في الخدمة المدنية ونحو ذلك مما هو مُوجع ومُؤلم. وسأختم الحلقة بالحديث عن مهرجان تشظي الأحزاب، وستكون الحلقة القادمة هي الحلقة الخاتمة لهذا المقال. (نقلاً عن صحيفة الأحداث، 6 مايو 2010م)
الهوامش
Abdalla El Bashir [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.