جلست على مقعد قصيروني في مدرسة بناتي في مدينتي ببريطانيا في إنتظار دوري. مدرسة أنيقة وتبعث الدفئ في قلوب التلاميذ الصغار ... غرف الفصول قُسِمت عن بعضها بعازل من دواليب واطية رُصّت عليها جاكيتات التلاميذ وكتب مزركشة وملونة بوردات صغيرة عليها صور التلاميذ بإبتساماتهم المُرتبِكة. حوائط الفصول عبارة عن نوافذ زجاجية كبيرة ... وتُطِل على مساحات شاسعات من الخضرة على مد البصر خضرة إرتدت لون أبيض بفعل الثلج المتساقط من ليلة البارحة حتى ساعة قدومي للمدرسة لمناقشة أداء بناتي وتحصليهن الاكاديمي وسلوكهن وتعاملهن .... الخ. إسترقت النظر خلسه لداخل فصل بنتي (طل) الأطفال يجلسون في دواير وليس في شكل صفوف ..يجلسون في فصل تقسم فيه الاطفال الى مجموعات .. مجموعة حمراء .. ومجموعة خضراء .. ومجموعة زرقاء ... وقد قُسِّموا على أساس درجة إستيعابهم وسرعتهم في إلتقاط المعلومة وتفاعلهم مع الأستاذ وتحصيلهم الأكاديمي في الإختبارات على مدار السنة والتقييم النهائي في خواتيم العام الدراسي، وهي مجموعات الغرض منها الاّ يُعيق تأخر من لديه مشكلة في الإستيعاب غيره من المضي في دروسه ... وألاّ يجد نفسه في مقارنة مع من يُشعِره بأنه أفضل منه... لمدة خمس سنوات وبناتي بالمدرسة لم تصلني نتيجة تُوضّح من هو الأول ومن هو الطيش ... كل ما يعني المدرسة أن يكون طفلك قد حقق الهدف المرجو منه في المقرر، والاّ يتدهور في تحصيله ونتائجه بصورة لاتكون مفهومة لدى المدرسة.. تقدمت نحوي معلمة فصل بنتي (طل) يسبقها عطرها الصداح كغيمة من الورود ...تنورتها القصيرة التي تتماوج حول ركبتيها وشعرها القصير الذي يحتضن قفا عنقها وينسدل بنعومة على وجنتيها وجبينها..رأيتها وهي تودّع ولي أمر أحد الطلاب وسمعتها وهي تُنهي مقابلته وهي تقول: (هذا أقصى مايمكن أن يفعله إبنك .. لايجب ان تضغط عليه أكثر من ذلك ... أقدّر رغبتك في أن تراه في أحد الجامعات الكبرى وفي الكلية التي يريدها ... ولكن هذا قد لايكون متوافقاً وإمكانيات إبنك الحالية، أرجو أن تفهم أن الحياة كما تحتاج للأطباء والمعلمين والمحامين .. تحتاج أيضاً إلى عمال الدريسة والحلاقين والنُقلتية والمزارعين ) قالت كل ذلك مشفوعاً بإبتسامة جميلة كالغد الذي تحكي عنه ...بالإشراق الذي ترى به من حولها وتقدر وتثمن مجهودهم ... لا يدري هؤلاء القوم أننا في وطن ندفس كل الطلاب في كليات بعينها وندفع دم قلبنا ليرتاد ابناؤنا هذه الكليات سواء كانوا مؤهلين لذلك ام لا ... وكأن الدنيا لم يخلق بها كليات غير هذه الكليات وبعضنا يدفع بأبنائه هناك لمجرد الفشخرة والشوفونية العبيطة. خرج ولي أمر التلميذ، ودخلت أنا بعده وإستمتعت بالحوار مع المُدرّسة وخرجت سعيدة كما المنتصر ... ومُطمئنة كطفل شرب كورة لبن دافيء في شتاء قارص ولاذ بحضن امه ... هكذا يكون بناء الاطفال وصُنع مستقبلهم النفسي والأكاديمي وشحنهم بطاقة إيجابية وثقة بالنفس تجعلهم قادرين على كسر الصخر وتفجير الينابيع. بلا طابور .. ولا إذاعة نتائج .. ولاتصفيق لأول .. ولا إنكسار لطفل يتذيّل القائمة .. فالطفل يتذيل القائمة لظروف خارجة عن ارادته.. مثل مشاكل الأسر والتفكك او نتيجة لديسلكسيا وغيرها من صعوبات التعلم ... فهو طفل بلا حول ولاقوة .. نجعله يواجه السخرية والتهكم (والطيش العند الله بعيش) الطيش الذي ينظر له الجميع باذدراء واحتقار ...وينتظره سوط عنج في البيت ليلهب بدنه الغض من أب جائر وأم جاهلة يعاقبانه عن شيء هما المسؤولان عنه .. وأحيانا يكون السبب ظاهر كأن يكون الطفل يعاني من قصور عقلي وصعوبة في التعلم ولكن لا أحد يحاول ان يساعده .. على العكس .. يزيدون ناره ضراوة ودفعه لمزيد من الحزن والتخبط وعقله الصغير لايجد تفسيراً لما يحدث له، فيزداد انكفاءاً على حاله يوما بعد يوم وعن نفسي، بكون عايزة أبكي كلما رأيت الناس يضحكون في النكتة التي تقول أن أب جلد إبنه قبل النتيجة ولما سألوه ليه ... قال(أنا مسافر والولد دا نتيجتو بكرة) هذه النكتة توضح بالضبط كيف ننظر نحن لهذا الموضوع، وتعكس وعينا (الملولو المكعوج) تجاه موضوع حساس ويخص عيالنا وتربيتهم ومستقبلهم .. والإنسان المفيد القيم المنتج (المستف ثقة والمليان إعتداد )الذي نود صناعته لخلق مستقبل زاهٍ ومشرق .. دارت كل هذه الأفكار في رأسي وتذكرت زميلتي النحيلة التي كانت تجلس في آخر الصف ونحن بالمدرسة في مدينة ما من هذا الوطن الشقيان ... كانت تأتي في مؤخرة الصف عند ظهور النتائج .. خدراء وناعمة ومسكينة كدة ...الكان بكتلني عيونها .. آي والله عيونها ... وأنا طفلة زيي زيها ... عيون واسعات بس طوالي مدمّعات وساكنهم حزن عجيب وإرتباك غريب ... كنت أحمل كراسي وأجلس قربها محاولة ان أشرح لها مسائل الجبر وحساب المثلثات كنت متيقنة أنها لا تتابع شرحي، وكانت ترفع عينيها وبنظرة قليلة الحيلة تقول لي بصوت هامس مافي فايدة يا تماضر، ثم تنكفئ داخل حزنها ومرارتها وتزداد تشرنقاً وبعداً عمّن حولها.. ثم إفترقت عن هذه الزميلة لسنوات طويلة ولم أسمع عنها شيئ منذ ذلك الوقت.. حتى كان يوم .. في مطار هيثرو بلندن .... سمعت صوت كزقزقة عصفور اتي من خلفي يناديني بإسمي .. إتلفت ... عرفتها من عيونها ..ذات العيون الحلوة بس مع اختلاف الضيف الذي بات يسكنها الآن ...حل بريق جميل مكان الانكفاءة والهزيمة والخيبة ... سيدة حلوة متأنقة وحضنتها .... جرتني وقعدنا في تربيزة في كوستا .. انا عرست زول ربنا رسلو لي من عندو ...وقف معاي وساعدني ...مشينا أمريكا وعملت دراسات في graphics designing انت عارفة انا بحب الرسم والالوان ... اكتر حاجة ساعدني فيها زوجي أنه أعاد لي ثقتي بنفسي .. والصحيح أنها لم تكن موجودة اصلا في يوم من الايام ...خلاني استرجع الكائن الحي الجواي واحبه وأؤمن بيهو ...انا كنت حطام بني ادم من الحصل لي في المدرسة زمان من زميلاتي والاساتذة .. حتي ناس بيتنا عن نفسي، كنت طايرة من الفرحة بما تقول ... وماشلت عيني منها ....سعدت بنجاحها وبخروجها من العتمة التي كانت تعيش فيها ... سعدت بتغلبها علي محنتها وإبتلاءها وتسامحها مع ماض مليان bulling وعذاب وإضطهاد . ليتنا نرأف ببعضنا ...نرأف بأطفالنا وبأطفال غيرنا ... طبيبة أمراض نفسية ببريطانيا