للمدن مذاقها المرتبط بنكهتها وتكويناتها وشوارعها وشجرها وأنهارها وتاريخها وربما لا يختلف البعض بان النساء يدخلن أيضاً كبهار يلون المذاق فالنساء مثل الأزاهير يضّوعن رائحة المدن ، شدت بصري صبية في (المترو) الذي يتجول بين مطار هثرو ومحطة (بادنقتون ) الشهيرة ، الصبية تجسد لحاضر مستقبله الدعة والملاحة والخفر لها أعين زرقاء مثل ( ضّراب البلي ) الذي كنا نحرص عليه في صغرنا الشقي ، كان يختلف عن (البلية ) العادية لأنه كان أكبر حجما وأوضح ملامحاً وكان ذا لمعان خاص سبحان ربك حتى البلي لا يسلم من اتهام التمييز على أساس الجنس إذا ما انطلقنا أن (الضّراب ) هو ( ذكر البلي ) ! .. كانت الصبية تتنفس هسهسة فيضج كل المترو بالرنين وعندما تمسك أنفاسها يصدر المترو أصواتاً أشبه بالإحتجاج وعندما تتنفس ثانية يتئد ! وطّن المترو بكل جلاله الحديدي وصولجانه وقوته واتساع عرباته الملحقة به وركابه نفسه على هسيس الأنفاس الصادرة من رئة الصبية عبر أنفها المرسوم رسماً في الجزء المجاور لفمها الأشبه بقوس قزح تتنفس يرن ، تكف يضج وأنا الراكب الوحيد المعني بهذه الحوار بكل تجلياته البافلوفية . سرحت في المترو وفي بريطانيا الإستعمارية زراعّة كل الفتن في العالم وامتلأت احتقاراً لكل أجيال ساستها بيد أنني كنت مرتاحاً ( للفتنة) التي تتنفس بكل هذا النثيث !! هي فتنة يمكن إتقاءها ( بغض البصر ) ولكن كيف نغضه عن فتن بريطانيا التي ظللنا ندفع ثمنها منذ خرجوا ومنذ غنى العطبراوي( يا غريب يلا لي بلدك ) ذهبوا لبلادهم وأنجبوا مثل هذه النار التي تحرق بلا لهب، ونحن لا ننجب غير الخلافات ! كل مؤامرات السياسة تحاك من هذا البلد الذي لا تغرب شموس خبثه ، ولا تدفأ برودة أعصابه ، نهبوا كل ثروات القارات واستضعفوا كل شعوبها لبناء مثل هذه الصروح التي يقطعها المترو بسرعة تجعلها ظلالاً وسراباً في لمحة البصر وكلما خف وضاعف السرعة تنفست الصبية فعاد الرنين وامتلات القمرة بفوح الأريج وتخالط قلبي بين كراهية الإستعمار ومحبة ذرية الإستعمار . هي لا ذنب لها ولدت هكذا يقول المسيرية ( إييدا فوق الدلال وعينا فايته الريش ) نسيت قسوة أجدادها ولصوصيتهم لأن مؤسسات بريطانيا عقب الإستعمار أجهزت على ذاكرة الشعب بفلترة التاريخ فلم تعد تستدعيه ، وأسست للأجيال الجديدة كل أسباب الإنطلاقات الكبرى في الحريات العامة والتجويد المعرفي والتخصصات الدقيقة والصحة بيئة وأبداناً والبحث العلمي والأهم من كل ذلك علمتهم : « الرماية بالأنفاس » فحذقت الصبية لعبة أن تتنفس فيضج المترو ويلتهب (العالم الثالث ) . منحت العينين فرصة السياحة في هذا النصب الجمالي لتذكارات الإستعمار وأحفاده، كانت الحفيدة مثل الحديقة كل نبت فيها يقيء بفاصلة مختلفة بجمل مفيدة لها وغامضة للسائح ، ألقت رأسها للخلف فلامس عنقها المقعد الذي يليها ملامسة الندى المعروق بالطل للزهرة ذات الفصوص اليوانع ، ثم نهضت نهضة خفيفة لم يسمعها جسدها، مثل هؤلاء الصبايا ينهضن بلا صوت لأن عنقها لا يحتاج لتأشيرة لدخول جسدها ، كما أن جسدها لا يحتاج ( لدقة باب ) من قلبها ، كل اعضاء الجسد مفتوحة على بعضها بتناغم ونسق وفقاً لدستور يقوم على التعددية والحرية في إطار مواطنة الجسد ، تقوست الصبية مثل منطاد بيد صائد ماهر ، أظنها كانت (تتمقى) لترتاح الفايتمينات وعصير الفواكه وليتخذ الدم النادر الفصيلة مواقعه في شرايينها في دورة إنعقاداته العادية وفي تلك اللحظة تحرك صدرها وانسرب خصرها فشهدت عياناً تحاكك ما نفرا في الصدر الأعظم . يسقط الإستعمار وعاشت ذريته . *حاشية : شعر له علاقة بالنص وكنتُ عف النفس ما أبتدرتها بغلظة السؤال عن مدارها وعارها وجارها وما بنا يصيرُ جنة ونار ولم أبح لها لدى إقتران مهجتي بها بقدرتي على إستلاب الآخرين قدرة الحوار ( النور عثمان أبكر - غناء العشب والزهرة )