ليس من المنطق تحميل جهة ما، أو شركة مطاحن محددة مسؤولية النقص الحاد في دقيق الخُبز الذي يصل إلى المخابز.. لسنا مع التجريم المُطلق لأية جهة خاصة إذا كان لها شركاء في مجال عملها، ولكن يحدث دائماً أن ينال الأول علقة من يلونه في الترتيب، وهناك دائماً من يُفسّر الأحداث أو الظواهر وفق هواه ويرمي باللوم على الآخرين إذا ما أخفق في أداء مهمة أوكلت له. لا أُدافع عن مطاحن «سيقا» التي اتّهمها البعض بأنّها وراء أزمة الدقيق التي تعيشها مخابزنا الآن، فلا صلة لي بالشركة ولا بأيٍ من العاملين بها، لكن العدالة تقتضي أن نقول كلمة الحق عندما نرى ظلماً يقع على جهة ما، ويعمل البعض على تحميلها إخفاقات الحكومة أو الزج بها في دائرة الاتّهامات المزعومة في وقت لا تكون لتلك الجهة يد في الذي يحدث. الآن أطلّت أخطر أزمة ستواجهنا بعنفٍ وحدِة، أطلت برأسها ولا زالت بعض الأجهزة المختصة تنظر للأمر دون مستوى التعامل المطلوب.. والأزمة المقصودة هي أزمة الدقيق التي انعكست على إنتاج الخُبز، الذي قلّ إلى درجة كبيرة خلت معها بعض المخابز من عرضه للمستهلكين والمواطنين، حتى أن البعض أخذ يردد بأن أصحاب المخابز دخلوا في إضراب مفتوح، في حين أن أصحاب المخابز لم يُضربوا، ولم يدخلوا في إضراب مفتوح.. بل ظلت أبواب مخابزهم هي المفتوحة في انتظار الدقيق. الحكومة قطعاً لن تستطيع التدخل في ظل سياسات التحرير الاقتصادي وسياسة السوق الحر، وكثير من التجار اتّجهوا إلى تخزين الدقيق الأبيض انتظاراً لليوم الأسود الذي يرجونه في أعقاب ظهور نتائج الاستفتاء، إذ إن لديهم قناعة بأن الأمور لن تسير إلا على طريق أمانيهم وأحلامهم السوداء، ويتوقعون أحداثاً ومصادمات - لن تحدث - تدخل بالدقيق إلى السوق السوداء ليجنوا الأرباح الطائلة من تجارة الأزمات. الحكومة لن تستطيع التدخل في أسعار الخبز أو أوزانه، فهناك اتحاد لأصحاب المطاحن وآخر لأصحاب المخابز، وهناك جمعيات لحماية المستهلك.. لكن تدخّل الحكومة يمكن أن يكون من باب واحد فقط، هو باب الأمن الغذائي.. وهذا يتطلب تكوين لجنة دائمة عليا - لا لجنة طواريء أو أزمات - في كل الولايات، تعمل على رقابة الإنتاج، ثم توزيعه على المخابز ثم توزيعه على المستهلك، دون التدخل في الأسعار، لنكون بذلك قد حققنا الأمن الغذائي للمواطن، والوفرة بالعرض التي ستؤدي حسب قانون العرض والطلب إلى تخفيف الأسعار أو زيادة أوزان الخبز. ولابد أن تدرس ولاية الخرطوم وبقية الولايات فكرة إنشاء مخابر فئوية تتبع لفئات محددة مثلما يحدث في كثير من بلاد الدنيا، تعمل على توفير الخبز لعضويتها من خلال منافذ بيع محددة ومعروفة، مثال لذلك مخابز خاصة لعمال السكة الحديد، وأخرى تتبع لاتحاد عمال السودان ومثلها للقوات المسلحة أو للشرطة أو لاتحاد المعلمين.. وهكذا.. الفوضى دائماً لا يمنعها إلا النظام.. والنظام لا يجيء إلا بالعقل الذي يحدد الهدف.. ويحدد الوسائل.. امنعوا الأزمة القادمة.