المطارات والموانيء، وصالات السفر، وحركة القادمين والعابرين، وأصوات القطارات واللواري تمثل بالنسبة لى شجناً خاصاً منذ الصغر، وحتى أزمنة الارتحال ومنعطفات التوجع والشكوى وظلم الأحباء ... تلك يا سادتي مفردة ساطعة ومؤلمة وشجية وحنونة.. بدأت عندي منذ الصبا في القرية ونحن صبية نستمع من على البعد أنين لوري بعيد مجهد يحاول شق طريقه عبر تلال الرمال العاتية هناك في قرانا البعيدة في الشمال، أو صافرة قطار بخاري عتيق في كريمة، يطلق صافرته معلناً انتهاء مراسم، ملأ امعائه بمياه النيل وشنط المسافرين الملأى بمتاعهم البسيط وزوادة السفر التي تفوح منها رائحة القراصة المتمرة (نسبة الى التمر)، والتمر هناك يظل وفياً للناس في مختلف محطات حياتهم وأعياد حصادهم، بروشاً وثمراً وظلاً ومما يعرشون.. مشهد المغادرة دائماً مفعم بحبات الدمع يتساقط لآليء صدق بين المودعين والمسافرين، هذا وحين يكون الكماسرة بأزيائهم ذات اللون الكاكي وطرابيشهم الراجعة لثقافة العهد الفيكتوري، ومقصاتهم التي يضبطون بها صحة التذاكر وأقلام الكوبيا لتصحيح تصاريح السفر، تفوح من القطار المتحرك رائحة (السناطور) التي قامت على أساس أنظمة دقيقة للتغذية والتموين، ورائحة السناطور رائحة شهية وأيضاً جميلة يا طالما زينتها تلك القوارير (المدغلبة)- على حد تعبير الراحل خالد الكد- قوارير الليموناتي والليمون هناك، وفي وطننا بشكل أعم كالنخل تماماً وكانت سقايته على مسؤولية الراحلة عائشة الفلاتية: الله ليا ليمون سقايتو عليا هذا وحينما يبدأ القطار رحلة توغله في أعماق الصحراء نحو حاضرة الوطن، مختتماً مراسم التموين والتعبئة والوداع، ربما انطلق صوت اليمني من مسجل (قرندنق)عتيق تزجية للوقت وركاب الدرجة الرابعة أو الثانية أو الثالثة يتأملون مشاهد الوطن الجميلة... تارة يقابلهم النيل محيياً من بعيد ومختفياً عن الأنظار أحياناً أخرى، تاركاً مهمة تسلية المسافرين لأشجار دوم أو طلح أو حراز أو أراك عتيقة، وربما لصخور سود وكثبان رمال تنطق بأسرار كثيرة معبرة عن تكوينات، هذا الوطن الساحرة الذي تصهره الشمس صهراً في ذلك الجزء من الوطن ورحم الله اليمني واسماعين ود حد الزين داير أكون زى النسيمات التسافر دون تساريح لا قيود تمنعني لا تزعزعني ريح مفردات السفر وعذابات الرحيل ودموع القطارات والمطارات، لم تكن بالنسبة لي ذكريات محضة ولكنها ظلت تشكل أحداث حياتي منذ بداية الثمانينيات عبر خدمتي في الناقلة الوطنية للسعودية... رحلاتي الدائمة بين جدة والخرطوم لعقدين ثم انطلاقاً من هناك للشرق الأمريكي فغربة ضمن توزيعات قدرية شاءها المولى للسودانيين على أرصفة المدن البعيدة.. هذا ملح أجاج... تتجاذبك فيه عوامل الحنين لوطن تباعد بينك وبينه كلمات متقاطعة صعبة الحل، منها عبارات الحب والوطن والسفر.. والحقيقة أن بداية أسفاري كانت على متن مركب شراعية عتيقة بين ضفتي النهر مسافراً عبر السنوات من قريتي الى مدارس كورتي كأولى تجليات وسائل السفر، طبعاً بدون إغفال للخدمات الجليلة التي يا طالما نفحتنا بها حمير المنطقة قضاء للحوائج بين قرانا المتناثرة وزيارة لأحباب هنا وهناك، وتطلعا لود الحرائر في حفلات الأعراس في تلك القرى، حيث كانت الطنابير تشق عباب الليل كأصوات الطار أحياناً ونوبات الختمية وراياتهم الملونة وربما مدائح فقرا العجيمية... هناك حينما تناخ المطايا أمام بيت شيخنا عبد الحليم وتنحر الذبائح وتعلو أصوات الهمهمات الندية منهم منطلقين بحميرهم المسرعة الى قباب الصالحين، هناك في خاصرة جبل الصلاح كلنكانكول. 2 تثور في النفس عوامل الحنين الى البلد والأمسيات والناس، ويتحول مزاج الشجون العابرة المتجددة إلى حالة ذهنية مليئة بمفردات السفر تلاحظها على وجوه العابرين وكاونترات السفر وأنوار المدرجات، تحس أن أساس هذا العالم أصبح الآن إيقاعاً سريعاً يمثل النقل الجوي فيه ذراعاً رهيباً لتخطي الحدود، وتحقيق تبادل المنافع بين الناس على هذا الكوكب.. وعبر نقرة بسيطة على الحاسب الآلي تنقل الأغنية والمعلومة والاحصائية بل والمشاعر حين تنساب طازجة دافقة بين العاشقين في أركان الأرض في عصر رقمي تبدو فيه المسافة كبيرة بين سكانه الأصليين والمهاجرين إليه. الزمن الرقمي الكاسح الذي ينيخ المهاجرين من الجيل الماضي مطاياهم على أبوابه، طالبين من سكانه من الشباب الجدد البركة الرقمية وأولئك المهاجرين أتوا من عصر التايبرايتر القديم وتلفونات الكولبكس القديمة.. وربما تجلى هذا الفرق أيضاً بين طنبور عثمان اليمني القديم وجيتار المغني الكندي ديف كارول، ولهذا المغني قصة مع شركة يونايتد ايرلاينز الامريكية نحكيها ما دامت شجون السفر تحركنا هنا وهناك ممزوجة بحمحمات الطنبارة القديمة وتغاريد الجيتاريين في العصر الرقمي.. كان هذا المطرب الكندي من سكان مدينة هاليفاكس الكندية متوجهاً من كندا لي نبراسكا على خطوط يونايتد الأمريكية.. عندما هم بالنزول من الطائرة صاح أحد الركاب إنهم يرمون القيثارات من العفش على الأرض وعندما نظر المطرب لاحظ أن الجيتار المرمي هو جيتاره ولم يهتم موظفو يونايتدايرلاينز بالقصة عندما أشتكى لهم بادئاً بعرض شكواه. طالبهم بتعويص 1200 دولار عن الإضرار، ولكن دون جدوى وبعد تسعة أشهر من تكرار المحاولة كانت الإجابة بالرفض فقرر المطرب عمل أغنية وصلت الى 14مليون مشاهد و200 قناة تلفزيونية واذاعية، فبدأت يونايتد في(تحنيسه) لسحب الأغنية بدون جدوى، وقد قدر المحللون خسائر يونايتد بحوالي 180 مليون دولار وانخفاض سعر سهم الشركة في سوق الأسهم بأكثر من 10% ونحن هنا نترجم روح هذه الأغنية التي زلزلت عرش الشركة: You broke myTalyor Guitar United United You broke my Talyor Guitar Some big help you are You broke it ... I should have flown with someone else Or gone by you should fix it You broke it into a thousands pieces Just like you broke my heart يا ناس يونايتداير كسرتوا جيتاري وقللتوا مقداري يا ريتو لو سفري مع أي ناس تاني أو حتى بي لوري لو كان بمقدوري!! بهدلتوا خط السير يا ناس يونايتداير يا ريتني لو سافرت ذات يوم بسيارة كان ما فقدت يا ناس لي أغلى جيتارة لازم تصلحوا لي يا ناس يونايتد هوي يا من حقرتوا بي شكراً على الخدمات السمحة والجات لي أغنية ديف كارول جعلت من الناقل الأمريكي العملاق لقمة سائغة بين المتنافسين، مجاهداً من أجل البقاء في ظل الرياح العاتية لصناعة النقل الجوي كجهاد لوارينا العتيقة لفك إسار عجلاتها من قبضة قيزان الرمال العاتية في قرانا البعيدة.. عندما تأتي المحن فإنها تعم فلا فرق إذن بين لوري عطاية ود صباح الخير ويونايتدايرلاينز، فالمحن تعم ووقاك الله شرها يا بلادي ووقانا من حسرات العيش على أرصفة المدن البعيدة.