أكثر المشاهدُ إيلاماً للنفس والقلب والعين في وقتنا الحالي، هو مشهد آلاف الأُسر والعائلات الجنوبية التي حزمت متاعها القليل، ويمّمت صوب الجنوب مُخلّفة وراءها الدموع ومرابع الطفولة والصبا، والذكريات التي لن تنمحي، وكل عقل مُهاجر في موسم الهجرة إلى الجنوب يحمل معه مساحة وطن «نفسي» كبير ومُتّسع، لا يعرف للهدم سبيلاً، لكن لعن الله الخيانة والخونة الذين أرادوا اختطاف وطن، وتجزئته بأسلحة التخويف والترهيب والترغيب والتهديد والوعيد. وأكثر المسامع إيلاماً وإيذاء للنّفس والقلب والأذن، ما تلتقطه الأذن من كلمات تنعى الوحدة وتبكي الوطن القديم.. وليس من كلمات أشعرتنا بفداحة الفعل القادم، إلا تلك التي جاءت في برنامج (مؤتمر إذاعي) الذي يُعِدّه ويُقدّمه الأستاذ الزبير عثمان أحمد صباح الجمعة من كل أسبوع في الإذاعة السودانية، ونعني برنامج الجمعة الماضية، الذي استضاف السيدين الدكتور مندور المهدي، نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم، والدكتور لوكا بيونق وزير رئاسة مجلس الوزراء، القيادي بالحركة الشعبية، واثنين من الزملاء هما الأستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير صحيفة (السوداني) الغراء، والأستاذ الطاهر ساتي الكاتب الصحفي المرموق، وقد ناقش البرنامج قضية استفتاء تقرير المصير وتداعيات نتيجة الاستفتاء إن جاءت وحدة أو انفصالاً، وتمتع المشاركون بقدر كبير من الحرية في عرض آرائهم وأفكارهم ورؤاهم ومقترحاتهم، وهو ما يُحمد لهذا البرنامج الذي لا يُصادر حقاً لأحد في إبداء رأي أو وجهة نظر.. لكن الذي لفت انتباه الكثيرين - وأنا منهم - ما جاء في حديث الدكتور مندور المهدي حول منح الجنسية لقيادات حزب المؤتمر الوطني من الجنوبيين في حال الانفصال، وهذا حديث خطير، إذ إنّه ليس لجنوبيي الوطني أي امتياز على غيرهم - باستثناء الحركة الشعبية - لأن هناك أحزاباً عديدة تضم في عضويتها عدداً مُقدّراً من أبناء الولايات الجنوبية، مثل أحزاب الأمة والاتحادي والمؤتمر الشعبي، غير الأحزاب الجنوبية الوحدوية، ومنها من كان حليفاً للمؤتمر الوطني في أكثر من حكومة. لسنا مع طرح الدكتور لوكا بيونق (الانفصالي)، لكننا لسنا مع طرح الدكتور مندور (التفضيلي) إذ إننا نرى أن قضايا ما بعد الانفصال - الذي هو حادث لا محالة - أفرد لها الشريكان واتفاقية السلام الشامل فترة زمنية تمتد لستة أشهر أو تزيد لبحثها، ومن بينها قضية الجنسية وغيرها.. وإذا حدث الانفصال لا تمييز بين جنوبيي الوطني أو غيرهم لأن الأمر لا يرتبط بالسياسة وحدها، بل يتّصل بالاستراتيجيات الكبرى والأمن الوطني العام، وهذا التمييز نفسه قد يتسبب في أزمة لجنوبيي الوطني الذين سيشعرون بأنهم في معزل عن الحراك السياسي والاجتماعي العام، وقد يشعر كثير منهم بأنه أصبح من (الأقليات) الحقيقية التي لن تُؤثّر على الأحداث، بالحذف أو الإضافة.