جاءني صباح الجمعة الماضي خبر وفاته في نفس الصباح ووقع عليّ كالصاعقة ولكن سريعاً قلت في نفسي (وما أدراك ما ميتة الجمعة وأول شهر محرم بداية العام الهجري الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة ويهاجر فيه الزعيم محي الدين مكي إلى ربه راضياً مرضياً إن شاء الله). توفي الزعيم على فراشه وهو نائم بعد أن قضى ليلته عادياً مع أسرته وجيرانه وضيوفه كأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يأتي موته سلساً كما حياته التي كانت بين الناس طيلة عمره الذي امتد إلى الثمانينات وقد قضى ما يُقارب الخمسين عاماً منه في خدمة الناس عامة وخاصة. وبالرغم من أن تسمية (الزعيم) هذه قد التصقت به منذ الحركة الوطنية قبل الاستقلال عندما كان من أوائل الرافضين وبقوة للطرح الاستعماري لقيام الجمعية التشريعية في البلاد بديلاً لحكمهم الذي شعروا آنذاك بقرب نهايته ولكن وإن كانت كلمة (زعيم) ارتبطت عند الكثيرين بالعمل السياسي أو القيادة القبلية إلا أنها قد سعت بنفسها للمرحوم محي الدين بدروب كثيرة ومداخل شتى فقد اجتمعت في الرجل صفات الزعامة التي قل أن تجتمع عند غيره أولها: كان كريماً أجواداً باب منزله وديوانه الكبيرين مفتوحان طوال اليوم يستقبل ويُكرم الوزير والخفير والمدير والموظف الصغير بل ويستقبل بكل الرحابة والبشاشة طالبي المساعدة من الرحل والعابرين وقد رأيت بعينيَّ مدى الألم الذي يعتصر وجوهاً لا نعرفها كانت تتحلق حول المكان ويجلس بعضهم في ركن قصي من صيوان العزاء وهم يبكون وينتحبون. لقد كان كرماً لا يفرق بين الناس ولا يسعى به للتقرب أو التزلف إلى أصحاب السلطة والجاه ليجني لنفسه مصالحاً ذاتية. ثانيها: كان (الزعيم) رحمه الله ذو عقلية راجحة وذكاء خارق وثقافة ممتدة اكتسبها بكثرة إطلاعه فهو يمتلك مكتبة عامرة تجتمع فيها أمات الكُتب والمخطوطات وبالمناسبة كان من قراء هذه الصحيفة الراتبين ومن أكثر النّاس تواصلاً معها عبر التلفون أو البريد أو الزيارة المباشرة يُعبّر عن رضائه أحياناً لما ورد فيها وينتقد نقداً بناءً أحياناً أخرى يؤكد به على تواصله واهتمامه لذلك كان ذرب اللسان ومتحدثاً قديراً يتمتّع بقدرة الطرح وتنظيم الأفكار مما جعله يتقدّم المجتمعات والاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات متحدثاً باسم الآخرين وكان حديثه يجد الاستحسان عند كل من يسمعه. ثالثها:- كان سياسياً مُحنّكاً اكتسب العديد من صفات القيادة التي تميز بها رجال عصره من دهاقنة السياسة وعلى رأسهم الزعيم إسماعيل الأزهري الذي زامله وعمل معه في النضال الوطني حقبةً من الزمن طويلة مما أكسبه مرونة سياسية جعلت منه القائد لمجتمعه في ظل كل التقلبات السياسية التي مرّت على البلاد فكان رمزاً لا يتخطّاه أي نظام. واستطاع بحنكته ومرونته أن يخرج أجيالاً من الشباب كانت وستظل لهم بصماتهم في الحياة السياسية العامة وصدق أحد المتحدثين عندما قال (لقد سقط القمر من بين النجوم) ولكن رغم ذلك أقول قولة الأخ الباشمهندس الحاج عطا المنان (إنّ فقد الزعيم محي الدين مكي سيكون مُتِعباً جداً أن يخلفه أحد أو يجد الناس شخصاً يخلفه). رابعها: اهتمامه اللامحدود بقضايا الوطن العامة ونصائحه التي كان يُرسلها للقائمين على الأمر (عندما كانوا ينتصحون) وما كان لهذه النصائح من آثار فعّالة وموجبة على مسار الحياة السياسية في السودان، ثم قضايا الشمالية ومن بعد ذلك ريفي مروي الذي شارك كثيراً في قيادة مؤسساته المحلية حتى ناضل وقاد إخوانه وأهله إلى أن ولد مجلس ريفي الدبة ومن ثمَّ محلية الدبة ولم يكن نضاله في هذا الأمر من منطلق جهوي أو قبلي ولكن من خلال الفهم الذي تبلور أخيراً في السياسة السودانية وجاء بالحكم المحلي وتقصير الظل الإداري وتسهيل تقديم الخدمات للمواطنين - لقد كان الزعيم رحمه الله رئيساً للمجالس التشريعية لعدة دورات ورئيساً لمجالس آباء المدارس بمستوياتها المختلفة وأميناً لأمناء المستشفيات وجامعة الدبة التي بادرت بها شركة شريان الشمال بالتعاون مع الأجهزة المحلية، ثمّ كان أخيراً نائباً لرئيس المجلس التشريعي بالولاية الشمالية وفي كل هذه المؤسسات ظلّت بصماته قوية وبارزة يتحدّث بها كل من تولى مسؤولية القيادة فيها ويقولون لو لا (الزعيم) محي الدين لما كان كذا وكذا. وخامسها: هو تواضعه اللامحدود الذي أطر به كل هذه الصفات فتجده مع الصغار والكبار في أنديتهم أو منتدياتهم تجده مع المزارعين في حقولهم ويناقش معهم ويسعى لحل قضايا الزراعة ونجده مع أهل الورش والعاملين فيها يسعى معهم لتطوير الصنعة وتجويد الأداء وتجده مع التٌجّار يترأس تنظيماتهم ويناقش قضايا العمل التجاري وفي نفس الوقت محافظاً على مصالح المواطنين المستهلكين قبل التجار. ثم أخيراً تجده مع كل هذه القطاعات في كل أفراحهم وأتراحهم وتجده منفعلاً بقضاياهم الخاصة حتى داخل أسرهم فكانوا يثقون فيه ويحترمون ويصدقون وعوده ويلتزمون بما تتمخض عنه اجتماعات الصلح والنصح والمناصحة فكان رحمه الله كالغيث أينما وقع نفع. إن مآثر الشيخ الزعيم المرحوم محي الدين مكي أبو شامة لكثيرة وتحتاج للكتب والمجلدات لإحصائها ولكننا سنسعى إن شاء الله مع بعض الإخوة الكرام من محلية الدبة ومن الخرطوم لتوثيق سيرته الزاهية واستعراضها في حفل تأبين كبير يتناسب وشخصيته العظيمة ثم نطرحها من بعد ذلك في سفرٍ تتداوله الأجيال عله يكون هادياً لها في مسارات هذه الحياة وإشارات تُنير الطريق أمام الساعين لخير النّاس. ليظلوا رموزاً مُضيئة لها.كما سنؤسس منظمة خيرية باسم الفقيد لتقديم الخدمات للمنطقة. ألا رحم الله الزعيم محي الدين مكي أبو شامة زعيم عصره بلا مُنازع وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً(إنّا لله وإنّا إليه راجعون)