كانت المناسبة «المؤتمر الثالث عشر للحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان المتحدث الرئيسي زعيمه مسعود البرزاني، الذي اعتلى المنصة، على غير العادة، في ثياب مدنية، بدلة كاملة وكرفتة - متخلياً عن مظهره التقليدي الميليشاوي، شبه العسكري، المكون من سروال كردي فضفاض وقميص عسكري(سفاري) حطة حمراء على الرأس وحزام عريض في الوسط، باعتباره قائداً لقوات «البشمرقة» التي قاتلت من أجل تحرير كردستان العراق، ولا تزال موجودة هناك باعتبارها حارسة الحكم الذاتي الذي يتمتع به الإقليم منذ عهد صدام حسين عندما أصبح «محمية أمريكية»، وانخرط باختياره في العراق الجديد ووقع على الدستور وأصبح أحد أبنائه - جلال الطالباني - رئيساً للدولة العراقية. كان يجلس في الصف الأمامي لذلك المؤتمر العتيد رهط من أهم رجال العراق وساسته الذين نالوا شرعيتهم في الانتخابات الأخيرة فتولوا أرفع المناصب في البلاد، وكان في مقدمتهم الرئيس العراقي جلال طالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس مجلس النواب أسامة النحيفي ورئيس القائمة العراقية رئيس المجلس الأعلى للسياسات الاستراتيجية المرشح «إياد علاوي» كانوا يستمعون لخطاب البرزاني الذي اعتلى المنبر، وإذا به يفاجيء الجميع، ويفجر ما يمكن وصفه «بالقنبلة» أو الصاعقة الصادقة التي ألجمت الجميع. راقبت بشكل خاص ومدقق ردود الفعل على جوه أولئك الكبار الجالسين في الصف الأول، فإذا بي أرى وجوماً ومحاولة (ناجحة) للسيطرة على ما ينم عن الانفعال، صمت مطبق وتركيز صارم ومقصود للنظر نحو المنصة وكأنهم تماثيل شمع أو «خشب مسندة» كان ذلك ليلاً وفي الصباح رحت أجوس في المواقع الالكترونية أرصد وأدقق في كلمات البرزاني وما تركته من أثر وما أفرزته من ردود أفعال، فألفيت نص كلماته في أكثر من صحيفة وأكثر من وكالة أنباء وقناة إخبارية، فقد قال البرزاني بإجماع كل تلك المصادر ما يلي: «ظلت المؤتمرات السابقة للحزب تؤكد أن الشعب الكردي يملك حق تقرير المصير» وتابع «بالاتكال على الله سنطرح مسألة تقرير المصير أمام أعضاء المؤتمر، باعتبار الحق جوهرياً واستكمالاً لجهود المرحلة السابقة. نطرح ذلك أمام المؤتمر للتحليل والمناقشة» وأضاف «أن الحزب وضع أهدافه بالارتكاز على نهج واقعي ودراسة موازين القوى والمعادلات السياسية، وعلى هذا الأساس حدد أهدافه، مرحلة بعد مرحلة، في إطار مطالبته بالديمقراطية والحكم الذاتي والفيدرالية في كردستان.. وقال كذلك - وفقاً ل «القبس الكويتية» إن حق تقرير المصير «ينسجم مع المرحلة المقبلة.. وأن الكرد أمة واحدة وستبقى واحدة، وستبقى جميع الأقليات القومية والدينية في كردستان متعايشة مع الكرد». هذا بشأن تقرير المصير، أما في الموضوع الآخر، الذي جعل قنبلة البرزاني «قنبلة مزدوجة، هو موضوع «كركوك» التي وصفتها «رويترز» بأنها ترقد على أكبر وأهم احتياطات النفط العراقية، وفي ذلك قال البرزاني، لضيوفه الكبار الذين شرفوا مؤتمر حزبه بحسب وكالتي الأنباء الفرنسية والألمانية (أ ف ب) و(د ب أ): «إن الدستور يضمن حقوق الشعب العراقي كافة، ويتضمن المادة (140) التي بتطبيقها يزول الكثير من الظلم والاستبداد» وأضاف «أؤكد لأولئك الذين يخشون احتكار السلطة في المناطق المتنازع عليها، وخصوصاً كركوك، حين تعود إلى الإقليم، إننا سنجعل كركوك نموذجاً للتعايش والتسامح والإدارة المشتركة، لكن لا يمكن المساومة على هويتها» واعتبر البرزاني «أن تقدم أقليم كردستان يجعل باقي سكان المحافظات يفكرون في إقامة أقاليم خاصة بهم، ومن جهتنا سنساند أي أقليم يتشكل حسب طموحات سكانه لترسيخ النظام الديمقراطي» - لم يقل الاتحادي أو الفيدرالي أو اللامركزي «حق للجميع». يجيء حديث البرزاني المفاجيء والمدهش مع اقتراب انقضاء مهلة تشكيل الحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي، تلك الحكومة التي ظل العراقيون يركضون وراءها وينتظرونها منذ أن أدلوا بأصواتهم في الانتخابات التشريعية الأخيرة في مايو الماضي، ما جعل المراقبين يذهبون مذاهب شتى في تفسير «عصا تقرير المصير» التي رفعها البرزاني بدون مقدمات في ذلك المؤتمر. منهم من حملها محملاً حسناً ولم ير فيها دعوة للانفصال، فقد أبلغ عضو مجلس النواب عن «الاتحاد الإسلامي الكردستاني» أسامة الجميل وكالة الصحافة المستقلة «ايبا» قوله: إن دعوة البرزاني لتقرير المصير ليست دعوة للانفصال خاصة للأكراد بما لديهم من صفة خاصة تختلف عن باقي مكونات الشعب العراقي، فأهم ما يملكه الأكراد هو الموقع الجغرافي الخاص بهم، وهي محاولة لتعزيز النظام الفيدرالي في إدارة الدولة، والفيدرالية ليست مذهباً سياسياً وليست دعوة للتقسيم وإنما نظام إداري ضمن العراق الواحد. ومنهم من تحفظ على الدعوة كعميد كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد الدكتور عامر الفياض الذي قال لقناة «روسيا اليوم» «إنه ينبغي أولاً أن يحظى مثل هذا الاقتراح بتأييد داخل إقليم كردستان العراق، علاوة على أنه يجب أن ينال الموافقة على المستوى العراقي العام» مشيراً إلى أن «دستور البلاد يؤكد على وحدة العراق، انطلاقاً من أن أقليم كردستان هو جزء من النظام السياسي البرلماني في العراق أما صحيفة «الرأي» الأردنية فقد وصفت الخطوة بأنها «مفاجئة ومثيرة للريبة، وقالت إن المطالبة بحق تقرير المصير في معناها السياسي هي ترك الأكراد يقررون مصيرهم من خلال إجراء استفتاء يحددون فيه خياراتهم السياسية في البقاء في إطار العراق الموحد أو اختيار الانفصال على قرار ما يحدث في السودان» في الوقت ذاته طالعنا رأي نشرته صحيفة «الوطن» السعودية تحت عنوان «العراق.. حذاري من دعوات التقسيم» وقال كاتب المقال: إن الإجهار بالانفصال أصبح سياسة مُعلنة لدى بعض الأطراف، وكله يندرج تحت ما أسمته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس «الشرق الأوسط الجديد» وذكر الكاتب أنه في ظل الاحتلال الأمريكي صدرت دعوات مشابهة من جنوب العراق وأصوات تطالب بإقامة «إقليم شيعي» على قرار حكومة الشمال، مثلما خرج من الأنبار وديالا من يدعو لإقامة «دولة سنية» في الوسط لاقت الشجب والاستنكار من مرجعيات روحية سياسية. وقال إنه برغم ذهاب رايس مع بوش فإن أفكارها ومشروعاتها للمنطقة مازالت تدغدغ أحلام من تربوا على موائد من يسعى إلى شرذمة شعوب المنطقة وإعادة رسم خريطتها طبقاً لأهوائهم وأطماعهم». علق على المقال مواطن عربي في رابط الانترنت بقوله: هي سياسة شد الأطراف فبعد أن تأكد انقسام السودان، فالآن العراق. العرب لن يقف أحد منهم في وجه التقسيم. ولكن المشكلة التي يواجهونها هي تركيا، وتساءل: ماهي الأوراق التي يضغط بها الغرب على تركيا للقبول بالتقسيم؟! ورد عليه مداخل آخر يدعى «حسن العديل» مستصوباً التساؤل وتساءل بدوره: أليس من المفترض أن تكون هناك سياسة إقليمية معاكسة COUNTER POLICYلحماية الوحدة العربية أم أننا سننام إلى حين انفصال جنوب السودان. وتدخل ثالث يدعى «عبد الله كتكوت» بموقف مغاير فقال: لا أعلم من أين ترسخ في أدمغتنا أن الخريطة الحالية هي الأفضل على الإطلاق نحن نخشى التغيير بأي شكل كان. والانفصال هو عبارة عن استقلال مجموعة بإدارة شؤونهم عن مجموعة أخرى، فما الذي يجعلنا نردد كالببغاء كلاماً يعتبر ظلماً لآخرين يعانون من نظام سياسي.. فلنحكم عقولنا ونجعل الناس أحراراً فيما يريدون ونترك العقلية «الهتلرية» القمعية. هذا بعض ما أثارته كلمة البرزاني في مؤتمر حزبه الثالث عشر وأكثر ما أثار انتباهي في تلك «الكلمة» - الدعوة لتقرير المصير هو قوله «إن الكرد أمة واحدة وستبقي واحدة وستبقى جميع الأقليات القومية والدينية في كردستان متعايشة مع الكرد»!، فهو لم يقل إن «العراق شعب واحد أو أمة واحدة» بل حدد «الأمة» في «الأكراد»، وهي دعوة وحديث يتخطى العراق إلى إينما كان الكرد في إيران أو في تركيا أو في سوريا أو حتى في روسيا، وسياسي مخضرم ومجرب كالبرزاني لا يطلق القول على عواهنه، ولابد أنه بحث الأمر من جميع جوانبه ووجد من وافقه وشجعه على مثل هذا الإعلان وفي مثل هذا التوقيت، تمهيداً لموجة جديدة من الزلازل وما يترتب عليها من ارتدادات. فلننتظر لنرى.