فى قمة البهجة التى طغت على صخب المسرح الفسيح تذكرت كيف أن البداية كانت قد خالطتها مشكلة كبرى كادت تطيح بالفكرة التى أصبحت اليوم بعد مرور عقدين من الزمان تجربة يحتفى بها، لقد علمنا اختلاف الرأي الكثير.. فهل نتعلم منه أيضاً كيف نصبر على الأفكار الجديدة، وإن بدت مخالفة لما اعتدنا عليه؟!. العالم كله مشغول الآن بترويض الأنفس على التوافق مع التغيير الذى تسبقه دراسة، وربما كان هذا ماحدث فى صدر التسعينات حين سمع الناس أن قراراً صدر بإنشاء كلية للهندسة تتبع لجامعة أم درمان الإسلامية، وكان ما كان من احتجاج وهجوم، ولكن صمدت الفكرة وشمخ البناء وتخرجت دفعات، إلى أن شهدنا قبل أيام بمسرح نادى الضباط بالخرطوم ما أثلج الصدور. كنا كأننا أمام جامعة أخرى، هل انتهى الجدل حول إنشاء كليات علمية تتبع لجامعة تأصيلية؟ أوضاع الجامعة تعطى قراءة ضمنية تنبىء عن تصميم على المضي فى اتجاه (العصرنة) بدليل توالي الكليات العلمية، الطب والإدارة، إلى الإنحياز صراحة للمنظومة الإلكترونية وتوطين التقانة والتبشير بتميز أكاديمى فى مجال العلوم التطبيقية يصاحب الريادة المعقودة علي الجامعة تأصيلياً. المديرون المتعاقبون على تنوع سيرتهم الذاتية تنافسوا وتضافر كسبهم المبارك، كلٌ عينه على التميز مستعيناً بتخصصه متحلياً بخصائص الإقدام على إتخاذ القرار، من المدير الفقيه الى الفقيه المتخصص، إلى المدير خبير الإدارة الحديثة.. لولا الإقدام على إتخاذ القرار ما كانت هذه المدينة الجامعية وهذا التغيير فى المناهج مع ما يثير من جدل، ربما كان لسياسات التعليم العالى دور مشجع لهذا الإتجاه عموماً على أنه(حاجة العصر)، وقطعا لمجلس إدارة الجامعة مبرراته، فالكلية مضت فى ملاحقة العصر فقد شهد مدير الجامعة بروفيسور حسن عباس مؤخراً بحضور عمداء الكلية توقيع عقد المرحلة الأولى من مشروع التطوير الذى وصف بأنه تاريخي تقني على أحدث طراز، بتمويل من بنك التنمية الإسلامى بجدة. إن ما حققته الجامعة عبرالكليات العلمية يدل على أن أمر(العصرنة) محسوب استراتيجياً، وليس أدلَّ على نجاعة توجه العصرنة من هذا التوهج الذى أظهره هذا الحشد البهيج 57 خريجاً وخريجة من قسم المعمار دفعة عام 2010 تنادوا وأسرهم للإحتفال، وقد أعدوه بدقة فأشاع بهجة طاغية( موضوعية) أنست الناس ما تركوه وراءهم من مظاهر التوتر، تخوفاً من مجهول تصورته صحف ذلك اليوم من أيام( المصير) فكل شيء يبدو وكأنه لاعالم إلا عالمهم ولا علم إلا ما تعلموه، كأنهم يراهنون أن السودان سيبقى بخير: ولما تقول قريت معمار تحس بالعز، وحرية .. تحس إنك قريت الكون وشفت عمارة أبدية .. أصلو عمارة يعنى شنو ؟ علم وفنون حضارة وذوق كمان إبداع .. وتقنية.. هكذا صدحت من تحدثت باسم الخريجين والقصيدة طويلة، لم تكن هناك كلمات بل فواصل إبداعية مختارة معظمها تمجيد للوالدين، فالإحتفال الرسمى من شأن إدارة الجامعة، وعلمت أنه لا يتيسر لها إلا بجمع دفعات من مختلف الكليات لعدة أعوام وحينها يتعذر هذا التميز بظهور كل خريج على المسرح فى فقرة إحتفالية تسعه وأسرته فى مشهد منسوب لأغلى أيام العمر.. هذا الجهد من الطلاب جدير بالإشادة وهو منسوب للجامعة فى النهاية. ضج المسرح بالتهانى والدموع، فلكل نجاح قصة كفاح يستدعيها المشهد، حيث طابت الثمار وفرح كل من بذل، قصة بنتنا الخريجة آلاء مصطفى عبد الله هى أنموذج لهذه السيرة الرائعة التى تشكل روح هذه اللحظات من عمر الأبناء وأسرهم ومن آزرهم، إنها قصة منسوبة لجذور التفوق العلمي في الأسرة كابراً عن كابر، فجدودها نشروا التعليم فى الشمالية منذ أيام الخلاوى ومعهد أم درمان العلمي، فالأزهر، ودار العلوم، فالإنتشار فى مدارس البلاد غرساً للمعرفة التي أهلت جيل اليوم ليتصدر الصفوف. هذه تحديداً سيرة جدها الأستاذ عبد الله محمد محمد خير عليه رحمة الله، وقد فاجأنا مدير الجامعة يوم التحاقها( بروفيسور محمد عثمان صالح) بأنه أحد تلاميذه فى المرحلة الثانوية ببورتسودان فى أوائل الستينات، وكم كان سعيداً وحفياً بهذه الحفيدة المتفوقة، وله اليوم أن يفرح مع أسرتها فوق فرحه بكل الخريجين.. . إنها تخرجت(باشمهندس) كما أعلن مذيع الحفل ضمن سيرتها الذاتية، وقد تربع عليها اسم الأم كما تتربع الأوسمة على الصدور. الحفل ترويج لفكرتين، فكرة الأسرة المكافحة التى تضحي ليتفوق الأبناء، وفكرة التعليم التطبيقي الذى يضع الخريج مباشرة على أعتاب وظيفة منتجة ومحفزة تنتظره، نحيي هذه الأسر المشرفة، ونحيي الجامعة فى سعيها المواكب للعصر، وهو عصر تكنولوجيا ودراسات تطبيقية ومناهج تلبي حاجة البلاد من الكفاءات البشرية، ولكن الدور الأساسي لهذه الجامعة يهمنا أيضاً خاصة وأنها كانت معنية بالملف الأخطر وهو تفريخ عناصر متصلة بمرجعية الأمة ومنابع الفكر. الموضوع متصل بجانبين، جوهر تخصص الجامعة ومستقبلها، وهو لذلك جدير بالموازنة حتى لا يتنازع المنهج بعد أن تميز بالريادة فى مرحلة تصدت فيه الجامعة واختصت برفد المجتمع بكوادر نوعية، وجدت نفسها تتصدر المسؤولية فى عقود الحكم الأخيرة، مما أتاح للجامعة ونظيراتها الترقي فى سلم الأولويات. حاجة البلاد لأهل الفكر والتأصيل لا تقل عن حاجتها لحداة العصرنة والتخطيط الاستراتيجي، فهل الجامعة بصدد أن تغادر مسارها الأصلي أم هي خطوة نحو تأصيل العلوم التطبيقية أم هو اتجاه لأن تكون جامعتين فى عباءة واحدة؟ دعونا نفرح بهذا التخريج النوعي فالعبرة بالنتائج، القضية كسائر قضايا التعليم العالي متشعبة تستدعي البحث والتشريح، ضمن متغيرات عديدة لعلها محل اهتمام أهل الشأن، وهم أهل علم وبالمعالجة أدرى، فأهل مكة أدرى بشعابها.