نشطت فجأة أصوات تبحث عن بدايات صحيحة تقود للمستقبل وإن طال الزمن، لسان الحال يبدو أسير تلك المقولة الصوفية التى تدعو لأن نتجاوز ما ضاع وندرك ما تبقى، ونعرف جميعاً أنها للشيخ البرعي تركها بين وصاياه شعراً وحكمة.. على كل حال التصوف ملاذ والأقوال المأثورة ناشطة الآن تصادفها، حيث اشتد الجدل حول ما ضاع ومن تسبب فيه، ففي ذلك أمل مادمنا نتساءل، ونقوم ما اتضح أنه خطأ. الأمل يتجدد الآن فى المستقبل متصلاً بالملفات الأكثر حرجاً (تدابير مابعد الإنفصال، إعادة هيكلة الدولة، النهضة الشاملة، الحريات والمعاش)، ولكن من أين نبدأ فنستدرك ونمضى بقوة؟ نشطت عدة جهات لإدارة حوار جرىء حول مشاكل البحث العلمي، على أنه علم التساؤلات والفرضيات والتحليل كأساس لمعالجة التراكمات وإدراك المستقبل.. ومن هذه الجهات جامعة عريقة دعت لمؤتمر جامع وسط حضور نوعي وطلابي كثيف تداول حول أوراق علمية جريئة العناوين، وخرج بدعم معنوي لفكرة البحث العلمي، مصحوباً بدعم مالي مقدر أعلن عنه راعي المؤتمر البروفيسور إبراهيم أحمد عمر المنحاز أصلاً للتعليم العالي والبحث العلمي، كان ولا يزال، ليفجر فتوى حول أولوية العلوم على التقانة، وكان هذا محور خطابه الذى جعل أمر البحث العلمي شيئاً أكثر جدلاً. البحث فى مصير البحث العلمي بين أولويات الدولة الآن، وهى تطرح تلك الملفات الحرجة، كلمة مدير الجامعة البروفيسور حسن عباس دارت حول هذا الفلك، مبشراً بدور نافذ للجامعة وطلابها، وذلك بدافع الإسهام فى معاجة القضايا الأساسية للبلاد، كالفقر والجوع والمرض. وذلك عن طريق البحوث التطبيقية وحسن استثمار الموارد، والمثال لذلك كما يقول هو مشروع (حاضنة تشغيل الخريجين)، إنه يأخذ شكل البيان بالعمل لما هو مرجو من البحوث التطبيقية القابلة للتطبيق فعلاً وجني كسبها الحقيقي، اتخذ مكانه على خاصرة حرم الجامعة بمساحة 50 فداناً ويستوعب ألفاً ومائتين من الخريجين يتوفرون لتربية المواشي والدواجن والمشاتل وصناعة الأعلاف، ويعكفون على عمليات الانتاج والتسويق بأنفسهم ووفقاً لدراساتهم مستفيدين من الأرباح، أو هكذا حدثني مدير إعلام الجامعة الأستاذ محجوب بخيت، على هامش الجلسة ودعاني لأرى بعيني. الطموحات تبقى شاهقة ومدير الجامعة يقول إن المشكلة قائمة لا تزال، لأن ما يخصص للبحث العلمي فى الميزانية لا يكاد يذكر مقارنة بالطموحات، إنه لا يفي لتشجيع البحوث الفائزة، ولذلك نبعت فكرة إنشاء إدارة لتسويق البحوث المتميزة لصالح القطاع الخاص والدارسين، وتخصيص نسبة لا تقل عن 1% من الميزانية السنوية، فضلاً عن صندوق تشارك فيه مختلف القطاعات المستفيدة من البحوث.. هكذا تحدث بروفيسور حسن عباس مدير الجامعة، والكلمات توالت بقوة عبر مقارنات بين حظ البحث العلمي فى جامعات بلادنا وخارجها. هذه المقارنات تبدو عجيبة والأمر الأكثر عجباً هو أن ينظر البعض الى التكنولوجيا على أنها قبل العلم والبحث العلمي!. هذا ما أفاض فيه راعي المؤتمر مستشار رئيس الجمهورية للتعليم العالي والبحث العلمي البروفيسور إبراهيم أحمد عمر فى خطابه الإفتتاحي الساخن. بدأ فلسفياً- المعرفة، الأخلاق، والتنمية، ليقول إن الأولويات هي الحفاظ على الوجود ثم التنمية وترشيد المتاح من المال لهذا الهدف، والجامعات هي الأولى بالحفاظ على الأولويات، لا تقانة من غير علم وإن لم نصرف على البحث العلمي لن تكون هناك تكنولوجيا ولا تنمية.. قال البروف ذلك ثم أردف: قلت هذا الكلام أمام مجلس الوزراء قبل أن أقوله هنا. من علامات المستقبل فى هذه الجامعة، جامعة أم درمان الإسلامية، إنها أنشأت (معهد البحوث والدراسات الاستراتيجية) وهو المنظم لهذا المؤتمر وهذه دورته الثانية ( ليحمل أمانة التكليف عبادة لله وعمارة للأرض، وبحث لمواطن القوة والضعف لينعتق البحث العلمي ويرتاد المستقبل). وهو يمنح درجات الدبلوم والماجستير والدكتوراة وفقاً لشروط الجامعة. المؤتمر يهدف إلى(وضع قضية البحث العلمي في الجامعة فى إطاره الصحيح، أي محور إهتمام كافة منسوبي الجامعة).. من الواضح أن جهداً كبيراً بذل توفرت له لجنة عليا ضمت 23 من حملة الدرجات العلمية بالجامعة يتصدرهم المدير ونائبه، وشارك بأوراق وبحوث 16 من الاختصاصيين، وانتظمت الجلسات أسبوعاً(6 - 11 مارس) بالمدينة الجامعية بأبي سعد بأم درمان. خففت من أجواء( زنقة) المعامل والمصطلحات عدة مشاهد منها طريقة الدكتور خميس كجو كندة وزير الدولة بوزارة التعليم العالي فى تقديم البروفيسور إبراهيم أحمد عمر، فقد كانت مبتكرة أشعلت القاعة بالهمهمة.. د خميس تم تقديمه على أنه ابن الجامعة وكفى، وكانت تكفيه ليفخر أمامنا بأنه كذلك، ثم يفاخر بأننا مسلمون وأحق بالريادة، ولنا أن نسير في درب العلوم لندركها، وقال إن الجامعة بهذا النهج العلمي ستكون(عنواناً لهذا البلد). البروفيسور محمد أحمد ابن عوف مدير المعهد الذى قاد التحضير للمؤتم، وتحمل مسؤولية قيادة البحث العلمي بالجامعة هو أستاذ الجراحة، حائز على جائزة إبراهيم المغربي لجراحة المناظير، وله 32 بحثاً منشوراً داخل وخارج البلاد.. أما الطلاب فقد أحسنوا التنظيم وحشد الروح العلمية المتوثبة للمستقبل كخلفية لهذا الحضور.. مشهدهم كان لافتاً كذلك نبرة التقديم وعذوبة العبارة فى طقس أحداث اليوم( نشرة العاشرة) بالتلفزيون (محجوب بخيت) مدير الإعلام والعلاقات العامة بالجامعة. كعادة المؤتمرات فللأحاديث الجانبية مذاقها الخاص، وحين غادرنا ألقيت نظرة على هذا المقر الفسيح المصطخب بالعمران ومظاهر الأصل والعصر، وتذكرنا كيف كانت البداية، كأني ذكرت من صادفت بما يحب فأفاض فى حديث الذكريات وأيام وحشة المكان وبعده عن العمران، اتفقنا أن الإنتقال لهذا المقر قبل أكثر من عقدين من الزمان فيه معنى أن نخطط للمستقبل بيقين ودراية وأن ننفذ بإخلاص ولا نضن بالموارد .