أزعجتني إفادات وزير المالية أمس الأول في لقائه المحدود مع بعض رؤساء التحرير. قال الوزير علي محمود إن الحكومة تسعى إلى توفير موارد خارجية «منح وقروض وسلعية» لاستيراد السلع الأساسية من «قمح وسكر وأدوية وزيوت»، من أجل تخفيف الضغط على الدولار وتحقيق الاستقرار في الأسعار، مع «تعهده» بالاستمرار في ترشيد الاستيراد وخفض الإنفاق الحكومي، و«توقعه» لمفاجآت في إنتاج الذهب، و«كشفه» عن احتمال انخفاض الاستهلاك بنسبة «10%» في حال انفصال الجنوب. إفادات السيد وزير المالية والاقتصاد الوطني ذكرتني بتراث السيد «المنسدح ود اب زهانة»، ثريُّ السلطنة الزرقاء، الوارث والعاطل الذي آل حاله إلى الإفلاس بعد أن تقلَّب دهراً في النعم، ذلك التراث الذي أصبح جزءً من ثقافة شعبنا في التعامل مع المال وتدبير الأحوال، ثقافة تستند إلى أقواله وأمثاله الدارجة حتى اليوم في أوساط السودانيين من مثل «إديَّن واتبين» أو «ربنا ما شق حنكاً ضيعه» أو «الله عاش الدودة بين حجرين». أقوال السيد الوزير جاءت بمثابة «بشاورة» مسحت كل المكتوب على «سبُّورة التخطيط الاستراتيجي» والذي شكل «أحلام» الدولة «الربع قرنية» والعشرية والخمسية، وأكدت دون أدنى شك أو مواربة أن الحكومة تعيش على «رزق اليوم باليوم» وتصرف «ما في الجيب ليأتيها ما في الغيب». فقد كشفت تلك الأقوال الصادرة من السيد الوزير - وهنا لا نلومه شخصياً، إلا بوصفه جزء من الحكومة التي تتصرف على ذلك النحو تجاه تدبير الشأن العام ومعاش الناس- كشفت أن الدولة لا تنتج ما يكفيها من تلك السلع الأساسية، وبعض ذلك مقبول كما في حالة «القمح والأدوية»، بينما لا عذر لها في أمر «السكر والزيوت»، لكنها تنتج في المقابل ما يفترض أن يغطي كل تلك السلع المطلوب والمتوقع استيرادها كالقمح والأدوية وغيرها من الضروريات والمدخلات المطلوبة للزراعة وبعض الصناعات -على قلتها- فهي تنتج وتصدر البترول، الذي كان من المفترض أن توجه عائداته لمثل هذه المصارف الضرورية لولا عقلية «السيد المنسدح ود أب زهانة»، هذا غير ما يدخل خزائنها من الجمارك والضرائب والجبايات المتعددة والمتنوعة. بتلك العقلية -عقلية اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب- كانت تتصرف الحكومة في عائدات الدولة من النفط، فتطاولت في البنيان واشرأبت البنايات الزجاجية في سماء الخرطوم بلا ضرورة -ربما من منطلق «شوفوني» أنا أيضاً دولة بترولية- بينما قيمة بناية واحدة من تلك البنايات كفيلة بتوفير الأسمدة والمدخلات الضرورية لمشروع زراعي كامل ينتج ما يساوي أضعافاً مضاعفة لذلك المبلغ المهدر في تلك البناية. وبتلك العقلية أيضاً مضت الدولة تضخم جهازها التنفيذي والدستوري وتشكل حكومتها في المركز والولايات بعدد من الوزراء والمستشارين و«الخبراء الوطنيين»، فأصبحت لديها حكومة كافية لإدارة القارة الأفريقية بأجمعها، تصرف عليها وعلى فروعها وهيئاتها ومؤسساتها ومؤتمراتها وحفلاتها، بمناسبة وغير مناسبة، صرف من لا يخشى الفقر. فلو حسب السيد وزير المالية كم تصرف الحكومة «على نفسها» من نسبة «الدخل القومي» لاكتشف على الفور أنه يدير «ساقية تشيل من البحر وتكب في البحر»، والساقية لسة مدورة، وأن حديثه لرؤساء التحرير عن «ترشيد الإنفاق الحكومي» سيصبح حديثاً بلا معنى أو ضرباً من التمنيات في إطار حكومة بهذا الحكم، لا قبل له بأن يقلصها أو ينقص منها وزارة واحدة أو هيئة واحدة يراها غير ضرورية أو يرى أن عملها واختصاصاتها يمكن أن تندرج وتنفذ عبر وزارة أو هيئة أخرى. هذا طبعاً غير ما يصرف على بند الأمن والدفاع الذي «يبتلع» لوحده كماً مهولاً من تلك العائدات تسليحاً وتدريباً وإنشاءات ورواتب ومخصصات. وليت وزير المالية قال لنا تحديداً وتفصيلاً خطته «لترشيد الإنفاق الحكومي» في كل هذا حتى «تتوازن» ميزانيته وحتى نفهم كيف له أن ينفذ هذا الترشيد ولنعلم مدى أثره بلغة الأرقام. لكن «ثقافة ود أب زهانه» تتجلى أكثر وتُفصح عن نفسها كشمس رابعة النهار عندما نأتي لحديثه عن «المفاجآت» في إنتاج الذهب والنفط، فأي سياسة اقتصادية ومالية تلك التي تُبنى على «المفاجآت» السارة، وليس «التوقعات» الاقتصادية العلمية المحسوبة. فهل يتوقع السيد الوزير، برغم بدء العمل في تعدين الذهب والمسوحات والكشوفات النفطية التي تجري في بعض الحقول الشمالية، أن «يفاجأ» بين يوم وليلة بخزائنه تمتلئ وتفيض بعائدات النفط والذهب، بحيث لا تكون هناك مشكلة «نقد أجنبي»، ولتصبح المشكلة الوحيدة هي كيفية «توظيف» هذه العائدات الفائضة، أم أن أمر الذهب والنفط سيأخذ وقته الكافي من الكشف والعمل والتنقيب حتى يصبح مردوده بين يدي الحكومة، كما يمكن لأي مبتدئ في علوم الاقتصاد أن يفهم، فليس في الدنيا كلها توقعات اقتصادية تُبنى على «المفاجآت». أما عن «المنح والقروض» التي اعتبرها الوزير حلاً سريعاً وناجعاً لمشكلة السلع الأساسية وأزمة «العيش والمعاش» التي بدأت تضرب البلاد، فهي ليست حلاً ناجزاً ومضموناً، فالمنح يقررها «المانحون» وهي «من فضلهم» إذا شاءوا منحوها أو منعوها، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها لحل مشكلة ماثلة ومتفاقمة كالتي نعيش، إلا إذا بلغت حد «المجاعة المعلنة» ليهب العالم ويحرك آليات «العون الإنساني» لإغاثة المنكوبين وليس «لتخفيف الضغط على الدولار» كما رأى الوزير. وليس وضع الافتراضي في «حالة السودان» على وجه التحديد بأفضل من حال المنح والمانحين، ذلك أنه بات من المعلوم بالضرورة أن السودان يئن تحت وطأة القروض وفوائدها المتراكمة التي كادت تلامس سقف الأربعين ملياراً من الدولارات، معظمها فوائد وخدمة ديون، وهو يسعى لإعفائه من تلك الديون أو فوائدها المتعاظمة، ولكنه سعي لم نر له أثراً يذكر بسبب المشكلات السياسية واشتراطات أصحاب تلك الديون، وقد تحاول الحكومة أن تجد منافذ أخرى للاستدانة -عربياً أو إسلامياً- وقد تنجح جزئياً، ولكن هل هؤلاء أيضاً كفيلون بحل مشكلتنا وإغاثة عثرتنا وحل أزمتنا؟! أفيدونا أفادكم الله!