قلنا في ما سبق، إن الخواطر عند الأولياء بمنزلة الرسل، وهي بين الأولياء مشاهد حية وليست طيفاً يرحل، فالدواخل مقروءة أمام كل روح شفيف، لأن الروح الشفيف يكاشف بالخبايا. ويحرص الصوفية على المطايبة والمواجبة وجبر الخاطر، تعرضاً للنفحات. وخاطر الولي، أو دعوته، لا تذهب أدراج الرياح وإن جاءت على سبيل المزاح.. ففي حميمية الصحبة بين الشيخ إبراهيم البولاد ورفيقه في الأزهر الشيخ على ود عشيب قال له: الله لا ينفعك بعلمك.. يقول الراوي إن البولاد مات بها، فلم يجلس للتدريس في خلوته سوى سبع سنوات، أما ود عشيب، فيقول عنه: لم يبلغنا أنه درس أحداً. وقلنا أيضاً إن الشيخ عبدالرازق أبو قرون عندما وقف أمام مزار الشيخ حسن ودحسونة قال: سيد المزار تاكلو النار.. فعاجله الشيخ حسن ودحسونة، طالباً منه أن يخفف الأمر عليه، إذ هو لابد واقع، فقال له: قل نار الدنيا.. ومن مظاهر اتساق الفكرة، أن التخفيف قد وقع على الشيخ حسن، لأنه مات بإرتداد نار البندق عليه، ويقال إن إرتداد النار كان(غارة) من ولي آخر دخل حفاير الشيخ في هيئة تمساح. ولما كانت الدواخل مكشوفة وأحاديث النفس مقروءة أمام الأولياء، فإن القاعدة لمن يزورهم أن يشذِّب خواطره، أنظر: الطبقات، ص (71).. الولي يقرأ الخاطر ويُكاشف، وقد تأتي المكاشفة رداً جهرياً على الإنكار الذي يوسوس به القلب، وكان الشيخ عبدالرازق أبوقرون بطلاً للمكاشفات في زمان الفونج، وقد روي أنه كاشف رجلاً أنكر بقلبه، أن يتقدم الشيخ الزين للصلاة على جنازة أبيه لكون الزين حينها حدث السن. وكان الشيخ عبدالرازق أمياً، وجليساً للخضر عليه السلام. وينقل صاحب الطبقات، أن تلميذه باسبار، أنكر تحلُّق الناس حوله، وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فكاشفه الشيخ عبد الرازق قائلاً: الله يريك ما شُفناه، فمسكه ووراه الكعبة عياناً(وفي دنقلا العجوز يقول الراوي إن رجلاً جاء إلى الشيخ عووضة شكال القارح، بصحبة امرأته العاقر، وطلبا إلى الشيخ أن يهبهما الذرية.(. فقال لهما ادخلوا ارقدوا فوق عنقريبي. ( تقول الرواية إن الشيخ عووضة بعد أن أدخلهما إلى مخدعه، بدأ يأكل الطعام الذي قدماه له، (فأنكر عليه بقلبه رجل حاضر في المجلس، قال الحضري: أكال الرغيف يتعد على أحكام الله).. هنا كاشفه الشيخ عووضة قائلاً: (عووضة إن قال للعود اليابس ألد يلد).. ينقل صاحب الطبقات، أن الراكوبة التي كان يجلس تحتها الشيخ عووضة، كان بها جذع نخلة جاف أُمبقاية ذلك الجذع (أخضر واثمر في الحال). والرواية الشفاهية المتداولة في منطقة دنقلا، حيث عاش الشيخ عووضة وحيث مزاره، تقول إن مكاشفة الشيخ، كانت لحاكم دنقلا آنذاك، حسن ولد كشكش.. من تصاريف الزمان، أن أحد حفدة ملك دنقلا ، د. حسن عووضة كشكش، يُعد الآن، من أبرز المنكرين لمكاشفات أهل الله..! والشيخ حين يكاشف، إنما يبدىء بعض ذاته للناس، ولا يكون هدفه من ذلك اظهار البراعة أو التميُّز، إذ الهدف غالباً، هو التعليم وترفيع من هم أقل درجة، وقد تكون المكاشفة إنذاراً بالعطب، وقد يتجسد الخاطر مادياً و(يتبيَّن) الشيخ، مثل خاطر الشيخ المسلمي الصغير، الذي أشعل ناراً في ربع الشيخ عمارة القرني،لأن الأخير أزمع الرحيل عنه دون رضاه.. أنظر الطبقات، ص85، 311، لتقرأ ما دوَّن ود ضيف الله، عن الشيخ عمارة، وعن الشيخ أبوالقاسم الودينابي، الذي انطلق خاطره (نوراً يتبع الشيخ دفع الله، حتى قفل إليه عائداً طالباً الرِّضا).. وفي السياق، قال الفيتوري، أن (تاج الصوفي يضيئُ على سجّادة قش)..!