نواصل استعراض جوانب من الصراع داخل مجتمع دولة الفونج إجمالاً، وإدخال الكيان الصوفي لنرى تعدد جوانب الصراع، والتي من بينها (صراع الأنفس)، الذي هو تنافس يقع بين الأنداد في الطريق، عبرت عن هذا النموذج من الصراع قصة الشيخ حسن ودحسونة مع أخيه العجمي، فقد هجر الأخير العجمي وطنه السودان وسافر إلى الحجاز، تاركاً الميدان للشيخ حسن، وبرر ذلك بأنه (ما بيرتعن تورين في بقر)، أي أن المكان لا يتسع لصولة فارسين، إذ لا بد أن يبذ أحدهما الآخر، وعندما التقيا في موسم الحج، فإن الشيخ حسن نظر إلى أخيه ولم يسلم عليه، فقيل له، لِم لا تسلم عليه؟.. قال: (نظر المحب إلى المحب سلام، والصمت بين العارفين كلام). فى مشهد آخر للصراع، ينقل الشيخ إدريس ود الأرباب (رسالة) من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحاج سعيد بن عبدالجليل قائلاً له: (إن النبي يأمرك أن تبني للشيخ دفع الله مسجداً، (لكن الحاج سعيد) يحلف بالطلاق (ألا يبني المسجد، إلا إذا تلقى الأمر مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم)، فقال رداً على الشيخ إدريس (أنا كافر ما يجيني)، (فكانت الرؤيا وتلقى الأمر فيها من النبي، وبنى المسجد).. أنظر الطبقات ص(62). هذه نماذج لصراع الأنفس الصوفية، الذي ليس فيه حظ للرغائب الدنيوية، وإنما هو طراد روحي في سبيل الكمال؟ من نماذج الصراع كذلك ما يدور في الخواطر، في دواخل النفوس، مما لا يُعبّر عنه بلسان القول أو بحركات الحواس والخواطر عند أولياء التصوف بمنزلة الرسل، أو كما قال ابن الفارض: (عسى عطفة منكم عليّ بنظرة، فقد تَعِبت بيني وبينكم الرّسل).. الخواطر بين الأولياء، مشاهد حية وليست طيفاً يرحل، فالدواخل مقروءة أمام كل روح شفيف، والروح الشفيف (يكاشف) بالخبايا ويحرص الصوفية على المطايبة والمواجبة وجبر الخاطر، تعرضاً للنفحات، فهم يؤمنون بأن خاطر الولي، أو دعوته، لا تذهب أدراج الرياح، وإن جاءت على سبيل المزاح. من ذلك ما تقرأ في حميمية الصحبة بين الشيخ إبراهيم البولاد ورفيقه في الأزهر الشيخ علي ود عشيب، يقول الراوي إن ود عشيب قال للبولاد: (الله لا ينفعك بعلمك)، ولربما كانت دعابة، في سياقها السوداني: على هذا النحو (إن شاء الله ما ينفعك)، يقول الراوي إن البولاد مات بها، فلم يجلس للتدريس في خلوته سوى سبع سنوات، أما ود عشيب، يقول ود ضيف الله (لم يبلغنا أنه درس أحداً)! مشهد آخر للصراع، حين وقف الشيخ عبدالرازق أبو قرون أمام مزار الشيخ حسن ودحسونة قال: سيد المزار تاكلو النار، فعاجله الشيخ حسن طالباً منه أن يخفف الأمر عليه، إذ هو لا بد واقع، فقال له: قل نار الدنيا. جدير بالذكر أن الشيخ حسن ود حسونة مات بارتداد نار البندق عليه، ويُقال إن ارتداد النار كان (غارة) من ولي آخر دخل حفاير الشيخ فى هيئة تمساح، والقصة فيها ملمح من واقعة السيدة عائشة رضي الله عنها مع أخيها عبدالله خلال واقعة الجمل، فلتُراجع في موقعها، ولما كانت الدواخل مكشوفة وأحاديث النفس مقروءة أمام الأولياء فإن القاعدة لمن يزورهم أن يشذِّب خواطره: (إذا جالست القوم أمسك خاطرك لا تحاكي الفقهاء فإن قلوبهم محجوبة)، فالولي يقرأ الخاطر، و(يكاشف)، وقد تأتي المكاشفة رداً جهرياً على الإنكار الذي يوسوس به القلب. ويعتبر الشيخ عبدالرازق أبوقرون بطلاً للمكاشفات، إذ كاشف رجلاً أنكر بقلبه أن يتقدم الشيخ الزين للصلاة على جنازة أبيه، لكون الزين حينها حدث السن، يقول صاحب الطبقات: (وسوس أحد بقلبه وقال هذه الصلاة باطلة، فقال الشيخ عبدالرازق مكاشفاً: الجنازة جنازتنا والصلاة صلاتنا أنتم عُمي، بركة صغيرون دخلت في الزين من راسو لي رجليهو)، ومع أن الشيخ عبدالرازق كان أمياً، إلا أنه (كان جليساً للخضر عليه السلام)، ذات مرة أنكر عليه تلميذه باسبار تحلُّق الناس حوله، وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فكاشفه قائلاً: (الله يُريك ما شُفناه، فمسكه وورّاه الكعبة عياناً)!