اختتمت في العاصمة الأثيوبية يوم السبت الماضي أعمال الورشة الفكرية المسماة (الاعتماد المتبادل)، توصيفاً للعلاقة المطلوبة والمنتظرة بين شمال السودان وجنوبه في حالة الانفصال، وتأتي الورشة بمبادرة من وزارة الخارجية النمساوية وبعض منظمات المجتمع المدني في النمسا، وشارك في تنظيمها عدد من مراكز البحوث السودانية والأثيوبية، وكانت قد عقدت لقاءاً افتتاحياً الشهر الماضي في العاصمة النمساوية فينا، ثم انتقلت أوائل الشهر الحالي إلى الخرطوم، قبل أن تذهب لتنظيم حوارها الموسع على شكل ورشة عمل في أديس أبابا، بمشاركة الناشطين المنتمين لشريكي الحكم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، والأكاديميين والباحثين، والمثقفين المستقلين، وموضوع الورشة الأساسي هو العلاقة المستقبلية بين شطري السودان، إذا ما قاد استفتاء تقرير المصير إلى الانفصال، كما ترجح التوقعات.. صحيح أن الورشة ليس من شأنها إتخاذ قرارات أو إجراء مفاوضات بديلة لتلك الجارية حول قضايا ما بعد الاستفتاء بين الشريكين، لكنها تبحث وتصمم الدراسات المستقبلية التي تخدم علاقة سالكة وعقلانية ومنتجة بعيداً عن أجواء التوتر والانفعالات والصراع، التي طبعت علاقة شريكي الحكم حتى الآن، ولنرى كيف يمكن تطوير علاقة اختارت لها اصطلاح الاعتماد المتبادل بين شطري البلاد، وهو اصطلاح مأخوذ عن اللغة الانجليزية INTERDEPEN DACE ورأى صديق شارك في ورشة أديس أبابا أن إصطلاح الاعتماد المتبادل لا يعبر بدقة عن مطلوبات تلك العلاقة أو الأهداف التي توختها الورشة أو الندوة، فالمطلوب كما رأى هو البحث في القواسم المشتركة وتقصي الجذور والروابط التاريخية والمصلحية بين شطري البلاد وتحقيق قدر من الاجماع، والنظر في كيفية وضع الترتيبات والآليات المؤسسات الكفيلة بتعضيد تلك العلاقة وتنميتها وتقويتها حتى تؤتي أكلها.. وبناءً على نقد هذا الصديق لمصطلح (الاعتماد المتبادل) الذي يمكن أن يقوم أيضاً بين الدول البعيدة والقريبة أو بين أطراف العالم كله شماله وجنوبه- والذي اشتهر بالاعتماد الدولي المتبادل GLOBAL INTERDEPENDACE، فقد وقع لي أن التعبير الأنسب في حالة بلادنا المنقسمة على نفسها هو (التفاعل الحر) والمستمر بين شطري البلاد، ويقابله في الانجليزية THE FREE INTERACTION- لما فيه من ظلال التواصل الحميم بين أناس ينتمون لوطن واحد أو أسرة واحدة وتاريخ مشترك وجغرافيا رابطة، ولما فيه من معاني المودة والرحمة، وليس مجرد الاعتماد المتبادل المادي والمصلحي، وقد رأت النسما- مشكورة- تقديم تجربتها في هذا المجال، والمساعدة من خلال التفكر في هذه التجربة، للكيفية التي يمكن عبرها إرساء علاقة من الاعتماد المتبادل- بحسب تعبيرها- أو التفاعل الخلاَّق والمنتج بين شطري البلاد في كلا حالتي الوحدة أو الانفصال. إذن ما جرى في أديس أبابا هو محاولة لإعمال العقل والحكمة لتجاوز احتمالات الانفصال المتوتر والعدائي إلى علاقة يسودها التفاهم وإدراك المصلحة المشتركة للطرفين في التفاعل والتعاون المستمر، والنأي عن كل ما من شأنه تعكير أجواء هذه العلاقة بالدراسة والتأمل في كيفية إرساء علاقة طيبة ومنتجة وخلاقة، تستفيد من الموارد المشتركة، وتؤمن تنميتها لمصلحة كل الأطراف واستدامة السلام في كل الأحوال.. واهتمت الورشة- كما جاء في الأخبار- بالاعتماد المتبادل في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفرص التكامل الاقتصادي في مجالات الزراعة، والصناعة، والسياحة، والنقل النهري، والمواصلات، وتطوير البنيات التحتية التي تخدم ذلك، مع الاهتمام بشكل خاص بمناطق التمازج الشمالي- الجنوبي والعمل على تطويرها، والحد من النزاعات التي قد تنشأ فيها من خلال التنمية المستدامة التي تخفف وتجفف احتمالات النزاع حول الموارد. كما أخذ النفط- باعتباره مورداً حيوياً- في هذه المرحلة حيزاً من اهتمام المشاركين في الورشة، وأكدوا أهمية استمرار التعاون في عمليات الانتاج والنقل والتصدير، كما أبرزت في الورشة حيوية دور الإعلام في التأسيس لعلاقة الاعتماد والتفاعل بين شطري الوطن، فأصدرت (إعلان الشبكة الموحدة للصحافيين) من الشمال والجنوب، ليقوموا بدورهم في نشر ثقافة السلام والتعاون.جاءت الورشة بمثابة ختام موفق لمؤتمر فيينا حول تحديات جنوب السودان في مرحلة ما بعد الاستفتاء، ونرجو أن تحظى مخرجاتها من دراسات وأفكار ورؤى صائبة وحكيمة باهتمام مسؤولي الشريكين المتفاوضين حول قضايا الاستفتاء وما بعد الاستفتاء، فهي بمثابة صوت عقل انطلق من أديس أبابا وما أحوجنا لسماع هذا الصوت في هذا الوقت العصيب، ونعد القارئ بمزيد من الإضاءة على مخرجات الورشة وتفاصيل ما جرى فيها فور توفر المادة المطلوبة لذلك.