في أديس أبابا لا تنقصك الخضرة ولا الماء ولا الوجه الحسن، ولا الجو البديع.. في هذه المرة أُضيفت إليها الرفقة العالمة ذات الأفكار العميقة، والمعلومات الثرّة، فأحالت يومي أديس إلى متعة خاصة ومعرفة مفيدة. تحالفت ثلاثة مراكز لإنجاز عمل رائع في ورشة العمل التي أُقيمت يومي الجمعة والسبت الماضيين تحت عنوان (الاعتماد المتبادل والسلام المستدام) هي: مركز دراسات المستقبل، ومنصور خالد، وثالثهما مركز الدراسات السياسية والأمنية النمساوي. كان الجميع على مستوى المسئولية في إدارة حوار عميق ومسئول عن مصير بلد يتعرض في تاريخه لامتحان عسير، بل لمحنة، ولازالت كل الجهود الخيّرة تبحث له عن مخارج آمنة، وأفق أكثر استقراراً وإشراقاً. كانت ورشة أديس بعضا من هذه الجهود دون أن تلغي، أو تحاول أن تحل محل آخرين يأملون تحقيق ذات الأهداف عبر مسارات متنوعة. بما أنه ليس متاحاً لنا إطلاق كل المعلومات وتفاصيل ما دار في الجلسات المغلقة، فإننا سنكتفي بإشارات عامة لما احتوته الورشة من أفكار ورؤى نثرها مجموعة من الخبراء عبر الملفات المختلفة. كان لدكتور لوال دينق وزير النفط القدح المعلّا في إقامة وإثراء هذه الورشة بالمعلومات. فكرتان كانتا محور مداخلته: الأولى تتعلق بضرورة تأمين النفط، وقد سعى إلى ذلك قبل الورشة بجمع أعلى القيادات السياسية بالبلاد لهذا الغرض في اجتماع فلوج الذي جمع بين النائب علي عثمان، ورياك مشار الذي أوضح فيه أهمية تأمين النفط كعنصر أساسي في استدامة السلام وبناء مداميك صلبة للاعتماد المتبادل؛ إذ أن النفط يمثل النسبة الأعلى في الموازنة شمالاً وجنوباً. الفكرة الأخرى التي ركز عليها د. لوال تتعلق بضرورة الاهتمام بما يسمى مناطق التمازج أرضاً وبشراً، باعتبار أن تلك المناطق هي أساس للاعتماد المتبادل بما تزخر به من إمكانيات طبيعية، داعيا لحدود مرنة وعلاقات سلسة لبناء سلام مستدام، يسمح بالاعتماد المتبادل لخيرات تلك المناطق. من أكثر النقاط التي لفتت انتباهي قوله إن الشمال سينتج خلال خمس سنوات مليون برميل يومياً من مناطق حددها بدقة . مرة أخرى للأمانة ليس متاحاً لنا نشر كل ما قيل. من أكثر الأورق إثارة للاهتمام هي ورقة الأستاذ صفوت فانوس أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم التي دعا فيها القادة والسياسيين السودانيين إلى أن يكونوا أوّل من يعترف بدولة الجنوب، بل والسفر لجوبا حال وقوع الانفصال لتهنئة الجنوبيين بدولتهم. كما دعا لفتح خط ساخن بين الشمال في الجنوب لتلافي أي آثار سالبة قد تترتب على قضية الانفصال. على طريقته البديعة وحسّه الوطني قال أستاذنا حسن عابدين إن الدعوة للاعتماد المتبادل لا تأتي من فراغ، إنما ترتكز على أسس ثابتة يمكن البناء عليها: أولها أننا سودانيون وسنبقى كشعبين بعد الانفصال كسودانيين، ولا نعرف لنا هوية أخرى غير كوننا سودانيين نحمل تراثاً سياسياً مشتركاً بحلوّه ومرّه، تمكنا في لحظات كثيرة من تاريخنا أن نتعايش ونتفاوض ونتصالح، فنعم الجنوب بتجربة طويلة للحكم الذاتي.. وتلك التجربة خير معين لنا في التعايش في دولتين مستقلتين. دعا الأستاذ حسن لاستمرار العيش المشترك؛ الشماليون في الشمال والجنوبيون في الجنوب، مشيراً لضرورة استمرار العلاقات الأكاديمية في مجالات التعليم العالي.. ثم رأى أن تحتفظ الدولتان بذات الاسم دولة السودان، ودولة جنوب السودان. في ختام هذه الحلقة أود أن أشير إلى أن المداخلات التي أعقبت الإفادات الرئيسية للمتحدثين لم تكن أقل ثراء من الأرواق نفسها، وذلك لأن المشاركين في الندوة لم يحشدوا ضحى بلا فهم. لقد أفلح تيم الشباب الدبلوماسيين الذكي في الخارجية السودانية، رفد هذه الورشة بخبراء ذوي أفق ومعلومات غزيرة أسهموا في إثراء الورشة بالنقاش العميق. كان هناك منصور خالد وتاج السر محجوب وبكري سعيد وأنيس حجار وعبد الباسط سعيد ودكتور بيتر أدوك وغيرهم كثيرون.. سنعرض لمداخلاتهم في الحلقات القادمة إضافة للخبرات النمساوية التي أبدعت في تقديم تجربتها العميقة وخبراتها لصالح استدامة السلام والاعتماد المتبادل.