وقد كنت انتظر معجزة في زمن عزت فيه المعجزات.. وقد كنت أغالط نفسي في إصرار.. وأقول الوحدة راجحة.. وقد كنت أدعو الله.. في سري.. أن تهتف صناديق الاقتراع.. وهي تشدو.. أبداً ما هنت يا سوداننا يوماً علينا.. و«صفقة» وأناشيد قدسية.. ترزم.. وتنشد.. نحن روحان حللنا بدنا.. وقد كنت أحلم في يقظة.. أن خريطة السودان.. في كل «أطالس» الدنيا.. لن يمسح منها بوصة واحدة.. مارد.. أو جان.. أو شيطان.. والآن.. أنا أصحو.. على الحقيقة.. وهي بطعم الحنظل.. بطعم الصبر.. إن الوطن لا محالة منشطر إلى قسمين.. نعم.. تيقنت.. وأصوات مجلجلة.. توقظني من نومي الحالم.. بل تصفعني في قسوة.. حتى أنتبه وأكون شديد الحضور.. قالها مرة «سلفا».. في كنيسة في قلب الجنوب.. إنه شخصياً مع خيار الانفصال.. ثم قالها رئيس الجمهورية نفسه.. في كلمات.. لا لبس فيها ولا تحوير.. إن الجنوب منفصل لا محالة.. قالها بالأمس نائبه الأستاذ علي عثمان وهو ينعي الوحدة.. محمِّلاً.. كل النخب الشمالية والمؤتمر الوطني من بينها.. إنهم جميعاً قد ساهموا أو وافقوا على الانفصال.. نعم.. إن الانفصال.. بكل هذه الشواهد.. واقع لا محالة.. بل إن أمره صار أمر وقت ليس إلا.. يا للهول.. ويا للحسرة والأسف.. ويا لها من أيام حزينة.. نحن بها موعودون.. ويزداد غضبي.. ويسبقه عجبي.. من كل الإذاعات والفضائيات السودانية.. وهي تردد في وصل وتواصل.. تلك الأغاني والأناشيد البائسة.. التي تدعو.. إلى الوحدة.. ولولا الأسى والحزن.. الذي يحتشد في تجاويف صدري.. لضحكت.. من ذاك الإستجداء المسكين.. لوحدة.. ذهبت أدراج الرياح.. وذاك الغناء الفج الكسيح.. وهو يؤكد.. أن السودان.. لن ينشطر.. ولو كنت مكان.. الذين يصنعون.. ويديرون.. ويبثون هذا الغناء لوحدة عصيِّة.. لذهبت مسرعاً.. لكلمات الرائع الجميل الراحل.. عثمان خالد.. لأردد في أسى.. في خوف.. في فزع.. كيف الوداع وكتين يحين زمن السفر.. وبالله عليكم.. من منكم.. من ليس له أصدقاء.. وإخوة أعزاء أو جيران أوفياء من أحبابنا أبناء الجنوب.. نعم هؤلاء.. هم الذين.. نأمل.. أن لا تدفعنا الظروف القاسية.. لوداعهم الحزين.. «خلاص».. بات الانفصال.. واقعاً.. لن تنكره خلجة.. في «مخ» عاقل.. والبكاء والنواح لن يجدي.. لن يفيد على اللبن المسكوب.. هنا فقط.. ينهض التحدي شامخاً في وجه الوحدويين شماليين وجنوبيين.. هنا فقط علينا.. وفي حزم.. و ثقة وثبات أن نتصدى.. للشوط الثاني من المباراة.. بهمة الأبطال وعزيمة الرجال.. هنا فقط وبعد التاسع من يناير.. علينا أن نبدأ من الدقيقة الأولى التي تعقب الاستفتاء بل الانفصال.. علينا.. أن ننهض بواجبنا.. المقدس والمتمثل.. في وحدة راشدة مرة أخرى بين الشمال والجنوب.. وإذا بكى الدكتور البديع.. علي شبيكة.. وهو يذرف دمعاً.. بل يرعف دماً.. في محطة السكة الحديد.. وداعاً للمحبوب.. آملاً.. راجياً.. أن يرجع مرة أخرى بالسلامة.. فنحن أيضاً نودع الأحبة الجنوبيين.. وقطارهم يتجه جنوباً.. بنفس الدموع.. بنفس النواح.. بنفس الأمل الشاهق الشاسع.. مرددين وتماماً مثل علي شبيكة.. لما ترجع بالسلامة.. فأنا والله صدقاً وحقاً.. ومن فرط حبي لهذا الوطن الفريد .. وخوفي على شعبه النبيل الجميل.. لا أجد من الكلمات التي أخاطب بها.. ذاك الإقليم الحبيب إلى روحي.. وتلك البقعة الغالية وهي تتحكر في سويداء قلبي.. وهي أرض الجنوب.. وعلى ظهرها.. أبناء الجنوب الأحبة الأشقاء.. سأردد مستعيراً كلمات شبيكة.. يوم رحيلك يا حبيبي شفت كل الكون مسافر لا هزار في روضة غنى لا زهر عطر بيادر لا حديث يروي شوقي لا كلام يجبر بخاطر الشهور يا ريته تجري وكل يوم يا ريتو باكر ولما ترجع بالسلامة.. وترجع أيامنا الجميلة.. وليت الجنوب.. يرجع.. إلى حضن وطن كبير.. وعظيم.. لنبنيه ذاك الذي نحلم به «يوماتي».. وعند إشراق الشمس.. سنغني سوياً.. وطن بالفيهو نتساوى نحلم نقرا نتداوى..