كتبتُ في مقال سابق في هذا العمق وفي العام الماضي عن مرحلة كنت فيها بمدينة دنقلا أتولى الأمانة العامة لمجلس حماية البيئة الذي أنشأته بتكليف هناك، وتحدثت في ذلك المقال عن د. عبد الرحمن الخضر عندما كان نائباً للوالي وأميراً للجماعة ووزيراً بالولاية الشمالية، وكيف كنا نشعر، ونحن عصبة من القيادات المحلية كان يصنفنا الآخرون المتجذرون بأننا المغردون خارج السرب، ذلك لأننا كنا لا نقول نعم العمياء، بل كنا ننتقد كل ما نرى أنه لايصب في مصلحة أهل الولاية، بل فقط يحمي مصالح الآخرين السياسية أو الشخصية. كنا نشعر بأن الأخ د. عبد الرحمن وبمواقفه المتقدمة هذه، كان أكثر عناصر المنظومة الحاكمة سياسياً وتنفيذياً تفهماً متجرداً لما نسعى إليه وكان يسعى وباستمرار لأن يستمع إلينا ويتناقش معنا، بل كان يصر على ما يقربنا له وللآخرين، مما أثار عليه الكثير من الضغائن والانتقادات من التنفيذيين والمتجذرين الذين ظلوا ولفترة طويلة يدافعون عن كراسيهم ومواقفهم بإبعاد الآخرين ويصفهم بالعندية لا من خلال العمل المقنع والإنجاز المفضي إلى بقائهم بإرادة أهلهم وتنظيمهم إلى أن دارت الدائرة بما كنا نحذر منه فاستعر الخلاف بينهم أنفسهم.. قصدت من هذه المقدمة أن أثبت أن الأخ د. عبد الرحمن والي الخرطوم الآن له منظار سياسي لا أقول مختلف، ولكنه متسع، فيه من المساحات ما يمكنه من امتصاص المرارات وتحجيم امتدادات الاحتقان السياسي، ولدي أمثلة وهي تحت بصر الجميع، وقطعاً هناك سياسات كبرى نسمع بها ونقرأ عنها، ولكنها ليست تحت البصر المباشر والأمثلة التي أعنيها وقد عايشتها بنفسي هي : أ- كثر الحديث وتصاعد الانتقاد حول سياسة وصفقة البصات التي تسمى ببصات الولاية، فدعا السيد الوالي عدداً من صحافيي «آخر لحظة» وركز على الذين ظلوا يشنون هجوماً على السياسة والصفقة نفسها، ودعا معهم الشركة التي تقوم على أمر البصات ونقابة أصحاب البصات الأهلية والحافلات وبعض وزراء الولاية والقيادات السياسية، وكنت حضوراً على نقاش ساخن واتهامات مثّل فيها الصحفيون لسان حال المواطنين، ثم كانت حجة المدافعات والمرافعات المقنعة من الأطراف المعنية الأخرى. وخرجنا عند الساعات الأولى من الصباح كما يقول الأستاذ أحمد البلال والجميع على قناعة بسلامة المشروع وضرورة دعمه ليستمر وجهاً من أوجه العاصمة الحضارية. ب- من ضمن التصاعدات التي طرأت على أسعار مستهلكات المواطنين، ارتفع سعر الرغيف وصغر حجمه، وطبعاً أمر الرغيف يختلف فهو مسبب الجوع الرئيسي، وما أخطر تفلتات المجتمع عندما يجوع فلم تكن معالجات السيد الوالي بالقرارات الفوقية أو الرقابة على الأفران أو تخويف المتعاملين في أمر هذه السلعة من مطاحن وتجار دقيق أو أصحاب أفران.. بل دعا د. عبد الرحمن كل هذه الجهات، شركات مطاحن الدقيق واتحاد تجار الدقيق واتحاد أصحاب المخابز، بل والمسوقين للرغيف بمختلف مستوياتهم مع الأجهزة الرسمية والسياسية صاحبة الشأن وبحضور الصحفيين الذين أشادوا جميعاً بالمنهج وطريقة إدارة الحوار الموضوعي الذي قاده السيد الوالي والنتائج التي خرج بها الاجتماع والتي أفضت إلى العودة إلى الحجم الطبيعي للرغيف والسعر الذي كان معمولاً به. ج- الأمر الثالث احتفال الاستقلال ورأس السنة والمخاوف التي كانت تنتاب المواطنين في ليلة رأس السنة من الفوضى والتهجم على الناس من بعض المتفلتين الذين يسعون إلى التنفيس مما بهم بالاعتداء على الآخرين، فكان أولاً إعلان السيد الوالي عن طريق وزارة الإعلام أن ليلة رأس السنة والاحتفال بالاستقلال سيسمح باستمرارها حتى الساعات الأولى من الصباح، ووجه بفتح الحدائق التي كانت مغلقة جميعها للمواطنين، وتم تزيين هذه الحدائق وكل شوارع العاصمة المضيئة بشكل لافت يريح نفوس المحتفلين، وأحيط كل ذلك بانتشار أمني ومروري مكثف لاحظ فيه الناس التعامل الإنساني الراقي ولطف التعامل بين الأجهزة المعنية والمواطنين المحتفلين.. وقد كنت بنفسي وأسرتي شهوداً على ذلك المظهر الحضاري الراقي مبنى ومعنى، فقد سهرت مع إخواننا جماعة الدليب بمسرح معرض الخرطوم الدولي ببري حتى الساعات الأولى من الصباح فعلاً وعدنا لمنزلنا في يسر واطمئنان وراحة نفسية كبيرة بعد ليلة عامرة بالإبداع ومناظر تسر الناظرين في كل شوارع وحدائق الخرطوم، وفي صباح اليوم الأول من العام 2011 يوم السبت علمت أن السيد الوالي قد أصدر تعليماته بمجانية نقل المواطنين بالبصات التي تسمى ببصات الولاية مجاناً، وأظن أن هذه المجانية امتدت لليوم الثاني. هذه النماذج التي ذكرتها وإن كانت تبدو للبعض أنها لا ترقى إلى أمهات القضايا، إلا أنني أراها من الأهمية بمكان وتنم عن فهم سياسي متقدم في كيفية التعامل مع المواطنين أصحاب المصلحة الحقيقية في هذا الوطن والسعي بهذا الفهم لامتصاص الاحتقانات السياسية والمخاوف التي تنتاب الناس في هذه المرحلة الحساسة والمفصلية. في ختام رسالتي هذه أقول للأخ د. عبد الرحمن «الأصبع الواحد ما بغطي الوجه ولا يحرك المياه» كما يقول مثلنا الشعبي.. فأرجو أن تتحرك جميع أجهزة الولاية السياسية والتنفيذية وعلى كل مستوياتها، للتوافق مع هذا الفهم وتنسق مع الخطوات الواسعة التي يعمل بها الأخ الوالي، وأن تفكر هذه الأجهزة جادة في دور الوسائط السياسية والتنفيذية التي يجب أن تعمل في المساحة الشاسعة بين والي الولاية وطلمبة المياه المعطلة أو محول الكهرباء الضارب أو ماسورة المياه المكسورة في الشارع أو الحي، أو فوضى استعمال الشوارع الضيقة في عرض المأكولات من فواكه وخضروات ورغيف والبيئة المتردية التي تحيط بها، ونماذج كثيرة المسألة بينها وبين الوالي شاسعة جداً فاملأ هذه المساحة بالكفاءات المتجردة التي تعمل من منطلق المسؤولية أمام الله والوطن والمواطن، وليس بالذين يتكئون بظهورهم على الولاءات و«شيلني واشيلك» ويجعلونك تنصرف عن المسؤوليات التخطيطية الكبرى في ولاية هي سودان مصغر.