سحائب الرضوان.. وهاطل المزن على مرقدك الطاهر.. أبا القاسم الشابي.. وليتك كنت.. تهتف.. وتلوح بسواعدك الفولاذ في «سوسه».. ليتك كنت على ناصية.. في «صفاقس».. وحولك.. الأشداء الثوار.. وأنت ترعد.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر.. مهلاً.. وعذراً.. الشابي.. فأنت بالفعل كنت هناك.. ليس لحماً وشحماً.. وشخصاً.. كنت أكثر من ذلك.. كنت روحاً.. ثورية عبقرية.. ألهمت شعبك العنيد.. هذه الجسارة هذه الرجالة.. هذا الكبرياء.. هذا النبل والتضحية.. تباً للطغاة.. ويا لهم من مساكين.. يقرأون التاريخ.. ولكنهم أبداً لا يتعلمون.. يحفظون الأشعار ولكنهم أبداً لا يفهمون.. ينامون علي وسائد الخدعة.. والخديعة.. والتقارير البائسة.. المخاتلة الكذوبة.. يجدفون.. على زورق.. تبدو أمام أعينهم.. المياه.. هادئة مستأنسة.. وديعة ومنسابة.. يضحكون ملء أشداقهم.. على «هاشم الرفاعي».. عندما يرسل إشارات.. لا يفهمها غبي على مدى التاريخ.. نعم.. إنه صدق وحق.. ومن العواصف ما يكون هبوبها بعد الهدوء وراحة الربان.. وزين العابدين.. طغى وبغى وتجبر.. لم يتبقَ له غير أن يقول أنا إلهكم الأكبر.. ظن.. أن الحديد.. والرصاص.. والنار.. هي حوائط الصد.. ونسيّ أن إعصار الشعوب لا يقف أمامه حائط من فولاذ.. ولا جدار من رصاص.. ولا قلاع من جرنيت.. ويصبح الصبح.. ولا السجن ولا السجان باقٍ.. وكانت أيامه الأخيرة تنضح مهانة.. وتحتشد رعشة.. وهو يقدم التنازل.. تلو التنازل.. سقطت تلك القسوة المتوحشة.. وتمرغ ذاك التعالي الكذوب.. و«تمرمطت» تلك «النفخة» البائسة تحت أحذية الثوار.. لم يشفع له.. تراجعه المخزي.. عن ترشيح نفسه لولاية قادمة.. وهو الذي ظن أنه في «القصر».. حتى يبارح الفانية.. لم تشفع له إقالة.. ساعده الأيمن ويده الباطشة وزير داخليته.. الذي ضحى به وكأنه يشرب جرعة ماء.. وهو الذي كان يده التي تبطش.. وسواعده التي تقتل.. وزنده الذي يسفك.. وحارسه الذي يسجن.. وشيطانه الذي يعذب.. وكذا أبداً الطغاة.. وعندما يشتد أوار النار «يبيعون» معاونيهم في أول «لفة» في تصرف تنقصه الرجولة.. والوفاء.. والشهامة.. ولكن هل يتعلم الطغاة من دروس التاريخ.. أبداً.. مطلقاً.. وحتى الآن.. وإلا لماذا لم يتعلم.. شاوشيسكو.. الذي ظن أن شعب رومانيا.. قطيع من الماعز.. يسوقه كيف شاء.. وهل تعلم باتيستا.. الذي كان يضحك.. و«يشرب» الانخاب وهو يتفرج على «محاكمة» (كاسترو) وهو يرسف في الأغلال.. وهل تعلم بينوشيه.. ذاك الذي اغتال.. سلفادور الليندي.. رمز شيلي.. ومنارة أمريكا اللاتينية.. ثم وبعد.. ثلاثين سنة وتزيد.. كان القصاص.. وكان المكان اللائق.. هو مزبلة التاريخ.. مساكين هم الطغاة.. يبيعون ماء الوجه.. ويبيعون الشعوب رخيصة لسادتهم.. يبذلون الممكن والمستحيل إرضاء.. لأولياء نعمتهم.. ثم عندما تهب الشعوب.. تدير تلك العواصم لهم ظهورها.. مسكين.. ذاك الطاغية «زين العابدين».. وطائرته «تحوم» في الفضاء.. وكل العواصم التي كان يركع.. ويسجد على ترابها.. تغلق ممراتها.. بل أجواءها.. أمام تلك الطائرة الحائرة.. رفضت باريس.. ثم مالطا.. ثم.. ثم.. و«يستاهل».. إنه لم يتعلم من محنة ومهانة «الشاه».. ذاك الذي رهن شعبه ونفطه.. وترابه لسادته الأمريكان.. وعندما هبت رياح الرعب واقتلعت عرش الطاؤوس.. لم يجد شبراً في كل أرض الله الوسيعة.. يستلقي عليه حتى تكرم.. عليه «السادات».. وقبر بلا شاهد.. وموت بلا بواك.. ويا لعظمة الشعوب.. التي تراقب.. وتسجل.. وتضحك.. وتنظر.. ثم تنفجر في دوي يصم آذان الطغاة.. وسواعد تقذف بعيداً.. أولئك الطغاة.