والذين ينسون التاريخ.. يتوجب عليهم أن يعيشوه مرة أخرى.. وها هي صفحة من الماضي القريب.. تعود.. في تطابق المثلثات .. مع صفحة نعيشها.. بكل التفاصيل.. بكل الدقة.. بكل الملامح.. بكل الشبه.. وفي تلك الأيام الراحلة.. أيام مايو.. كان نميري يردد عند كل لقاء.. عند كل حشد.. مقولته.. التي حفظناها.. كروائع البديع.. وردي.. كان الرجل يقول: (إن أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي.. وتوابعهم من الإخوان المسلمين وغيرهم.. قد دللت تجاربنا وأكدت مسيرتنا أنهم أعداء شعبنا)..فتدوي أكفنا بالتصفيق، ولا تعجبوا أو تدهشوا فأنا في عام الثورة الأول، أو الصحيح.. هو عام الانقلاب الأول.. كنت أحد (الثوار الأحرار) وذلك قبل أن تنقطع.. تلك الشعرة الواهية، التي كانت تربطنا بمايو.. فكان فراقاً دونه.. فراق ابن زيدون لولادة بنت المستكفي.. والغريب.. أنه وفي تلك الأيام.. لم نسأل أنفسنا.. عن الذي (فضل) من شعبنا إذا كان كل أولئك من ختمية وأنصار وأخوان مسلمون.. و(كمان) (غيرهم).. حتى أدركنا الصباح.. ولم نسكت شهرزاد من الكلام.. المهم.. كان نميري يظن أن الاتحادي الاشتراكي.. يضم بين دفتيه وفي جوفه.. كل من سعت به قدم.. على أرض السودان.. شيخاً أو شاباً.. رجلاً أو امرأة.. حبيباً أو طفلاً... وعاش في ذاك الوهم.. حتى استيقظ ضحى ذاك اليوم.. المجيد من تاريخ الوطن.. والاتحادي الاشتراكي.. يتبعثر في الفضاء كما الدخان.. وتقلصت عضويته.. إلى مائة وخمسين فرداً.. في تظاهرة بائسة.. اسمها موكب الردع.. (وبكره بس).. في صباحية الانتفاضة.. أضيئت أنوار (القبة).. ونهض من الرماد حزب الأمة.. ثم باتت (الجنينة) .. خلية نحل.. يحتشد فيها الأحباب وهم.. يشفون الفضاء.. (عاش) أبو هاشم.. و (الترابي) يؤم.. آلافاً من الإخوان المسلمين.. في الميدان الشرقي.. وميادين (العلمين).. والأهلية أم درمان.. وأمبدات والثورات، ارتفعت شاهقة الأعلام الحمراء.. وعودة الشيوعيين.. إلى العلن.. حتى شمس الظهيرة.. وتحت هالات الضياء.. وتمضي الأيام.. والوطن يزهو ويزدهي.. ويتقافز في دوائر ومربعات الديمقراطية الزاهية المزهوة.. حتى تتسلل مواسير البنادق.. إلى الصدور والقصور.. وإعصار الإنقاذ يوصف بالديمقراطية.. وحكم شمولي.. فولاذي.. مرعب يتمدد في الوطن.. ولأن القوم.. لا يتعلّمون.. ولأن بعض الناس ينسون التاريخ.. فإذا بشيخنا يكرر نفس التجربة .. يخوض .. نفس النهر.. وهو لا يعلم أن ذاك الطريق لا يقود إلى (البصرة).. يذهب مشرّفاً .. إلى (بقايا)..حطام مايو.. ويأتي بالتنظيم الجامع.. والذي ظن أنه الوعاء.. الذي يحتوي كل فرد في الوطن.. وأنه وبعد اليوم.. لا مكان.. لأنصاري.. أو ختمي.. أو شيوعي.. أو بعثي.. أو حتى لا ديني.. إلا في (المؤتمر الوطني). وتمضي الأيام.. عبوسة ورتيبة.. قبضة فولاذية.. (تكتم النفس).. يتمدد الوهم في نفوس.. القوم.. ظنوا وهو ظن آثم.. أن حزب الشعب السوداني الوحيد هو.. المؤتمر الوطني.. في تلك الفترة العنيفة الكالحة جرت انتخابات وانتخابات.. لم يسمع بها جلّ الشعب السوداني.. إلا لماماً .. وعلى استحياء، في نشرات الأخبار.. وتبلغ الملهاة.. ذورتها.. وتجري انتخابات لرئاسة الجمهورية.. كان المنافسون للرئيس الشير.. هم صديقنا كيجاب.. وحبيبنا خفيف الظل (عثماناب) ومالك حسين.. الذي لم يسمع به أحد إلا في تلك الأيام.. وتمر الانتخابات مرور النسيم العليل.. لا ملصقات.. لا ليالي خطابية.. لا تعبئة لا (صرف) لا سيارات تجوب الطرقات.. لا مفوضية لا (حس) ولا (خبر) والأهم من كل ذلك.. لا شتائم.. وسباب.. وضرب تحت الحزام.. ولا تخوين.. ولا تخويف.. للأحبة (كيجاب) و(عثماناب).. ولا حتى (نميري) (ذاتو) الذي ترشح للرئاسة. وترتخي القبضة.. وتشرع النوافذ.. عنوة واقتداراً.. نطلّ على العالم.. بعد انبلاج صبح نيفاشا.. التي في صلبها.. بل في قلبها.. الاستحقاق الديمقراطي والانتخابات.. وحتى الاستفتاء نفسه.. ويبدأ إعصار الانتخابات.. و (مولانا) يزور كسلا.. لتنقل الوسائط، بالصورة، والصوت، والقلم.. أحداث الزلزال.. ومئات الآلاف يحجبون حتى جبل التاكا.. والحشود البشرية.. لو شرب كل واحد فيها.. جرعة من القاش لنضب، بل لأصبح يباباً بلقعاً تعوي فيه الرياح.. ،، ونواصل ،،