ننتقل اليوم من ساحة عربية شهدت ثورة شعبية، وتُصارع الآن من أجل الاستمرار وتخطي محاولات الالتفاف و«الثورة المضادة»، هي تونس، الى ساحة أخرى، تدخل في عين العاصفة وتشهد حراكاً صدامياً يهدد سلمها الأهلي، هي لبنان، ما دفع ثلاث دول ذات صلة واهتمام الى عقد قمة في عاصمة جارتها الأقرب والأهم سوريا، من أجل تلافي المخاطر الجمة التي تحتوشها، وإمساك الفأس قبل أن يسقط على الرأس، كما فعل في مرات سابقة عديدة. فمن دون سابق إعلان التقى أمس (الاثنين) في دمشق كل من أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردقان، ومستضيف القمة الرئيس السوري بشار الأسد، للبحث في الأزمة اللبنانية في أعقاب استقالة الحكومة اللبنانية أو حلها، بفعل الأمر الواقع أثر انسحاب وزراء تحالف قوى 8 اذار (مارس) المعارض، لتتحول حكومة الشيخ سعد الحريري الى «حكومة تصريف أعمال» ولتنهار حكومة الوحدة الوطنية التي كان يرأسها، ولتؤكد الواقعة أن لبنان لا يزال يدفع من رصيد وحدته الوطنية فواتير حرب أهلية دامت لعشر سنوات، من منتصف السبعينيات الى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. ويبدو أن هناك رابطاً خفياً أو غير منظور بين ما يحدث في لبنان وما يحدث في تونس، فتونس كانت هي ملجأ الثورة الفلسطينية بعد الغزوة الاسرائيلية لبيروت عام 1982، ربما لأنها كانت المقر البديل للجامعة العربية التي غادرت القاهرة بعد معاهدة كامب ديفيد، كما أن الثورة الشعبية التي أطاحت ببن علي تعيد للذاكرة المقارنة، بل التفسير الأوضح، لأحداث مشابهة شهدتها عاصمتا البلدين، حيث تمكنت «الموساد» - المخابرات الاسرائيلية- من اختراق الشواطيء التونسية واصطياد بعض أهم رموز الثورة الفلسطينية، خليل الوزير «أبو جهاد» وصلاح خلف «أبو إياد» وقتلهما غيلةً، مثلما فعلت في أوقات سابقة، الشيء نفسه في شارع الفردان ببيروتالغربية، حيث اغتالت في ليلة واحدة ثلاثة من أبرز كوادر تلك الثورة وقادتها هم كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، واتبعتهم في أوقات لاحقة باغتيال غسان كنفاني، والحاق الأذى ببسام أبو شريف من الحركة الشعبية لتحرير فلسطين عبر طرد ملغوم. بالعودة الى القمة الثلاثية السورية-القطرية-التركية، التي تأتي استكمالاً للمساعي السعودية-السورية السابقة والتي قادت الى درجة من الوفاق بين الفرقاء اللبنانيين، ممثلين في تحالفي (8 اذار) الذي يضم حزب الله، وحركة أمل، والتيارالحر، بقيادة ميشال عون و(14 اذار) الذي يضم تيار المستقبل بقيادة الحريري، والكتائب اللبنانية بفرعيها -سمير جعجع وأمين الجميل- بالإضافة الى تيارات أخرى سنية ومسيحية، وهو وفاق وتفاهم على تخطي أخطر المواجهات بشأن المحكمة الدولية لاغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري (2005)، مواجهات كان ولا يزال يمكن أن تنشب بعد تسريب المعلومات الخاصة بأن قرار الاتهام (الظني) سيوجه لبعض عناصر حزب الله مسؤولية اغتيال الحريري.. ورفض حزب الله لذلك الاتهام بشكل مسبق، بكل ما لحزب الله من قدرة على المواجهات المكشوفة، سواء مع إسرائيل أو مع الفرقاء المحليين، الأمر الذي حمل سوريا، الحليف الأقرب لحزب الله للتحرك على المستوى الاقليمي والاستعانة بالسعودية أولاً، وبقطر وتركيا فيما بعد، لتجنيب لبنان وحلفائها في المقاومة اللبنانية مترتبات مثل هذه المواجهة، التي قد يصيبها بعض رشاشها حتى لو نأت بنفسها.النتيجة الأبرز، حتى الآن للقمة الثلاثية، هي تأجيل الرئيس اللبناني ميشال سليمان للاستشارات النيابية من أجل تشكيل الحكومة الجديدة، التي كان من المفترض أن تبدأ في ذات اليوم (الاثنين)، وذلك انتظاراً لنتائج جهود القمة التي قررت كذلك إيفاد كل من رئيس الوزراء القطري، ووزير الخارجية حمد بن جاسم، ووزير الخارجية التركي أحمد داؤود اوغلو الى بيروت اليوم (أمس) للقاء الفرقاء، ونقل رؤى الزعماء الثلاثة الذين التقوا في دمشق أمس الأول، لتدارس مترتبات القرار الظني الذي أحاله دانيال بالمار المدعي العام الى المحكمة الأولية، والتي قد تصدر قرارها بشأنه في القريب العاجل. المراقبون يرون أنه برغم الجهود الحثيثة التي تبذل، فإن لبنان قد دخل بالفعل في «أزمة نظام» مفتوحة، خصوصاً بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن لبنان كان ولا يزال دولة «مُتلقية»، ولم ترُق الى مصاف الدول المبادرة التي تقرر مصيرها بنفسها، وبأيدي أبنائها.. فتأجيل الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة جاء بمثابة أبرز دليل على ذلك، ولن يكون-بحسب هؤلاء المراقبين- الاسبوع الذي حدده سليمان لاستئنافها كافياً لرؤية ثمار تلك الجهود الإقليمية، خصوصاً في ضوء الضغوط الدولية التي تمارسها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الدوليون -فرنسا وبريطانيا- والاقليميون وفي مقدمتهم اسرائيل، وهي ذات الضغوط التي حملت -كما يقول زعيم حزب الله حسن نصر الله- رئيس الوزراء الحريري للتراجع عن ما تم الاتفاق عليه أثر الوساطة السورية-السعودية السابقة التي حملت الرئيس الأسد برفقة الملك عبد الله الى بيروت لأول مرة منذ خروج سوريا من لبنان.إلا أن متابعين آخرين للعلاقات السورية اللبنانية يرون في كل هذا الذي يحدث في لبنان، خصوصاً بعد تبرئة ساحة سوريا من الاتهام بوقوفها وراء اغتيال الحريري، يرون فيه فرصة استعادة الرئيس السوري بموجبها كل مفاتيح الملف اللبناني، بحيث أصبح من الصعب جداً من الآن فصاعداً التفكير بمخارج للأزمات اللبنانية المتلاحقة تكون ضد سوريا أو غير حائزة على رضاها، وتلك قاعدة مهمة لفهم التطورات المقبلة في ظل توازنات دقيقة سترعاها دمشق على الأرجح بغية توسيع قاعدة تحالفاتها في لبنان، برغم ارتباطها الأوثق برعاية المقاومة على المستوى الاستراتيجي. وتقول صحيفة «السفير» اللبنانية ذات الصلة الوثيقة بالمقاومة اللبنانية، إنه ليس من مصلحة سوريا أن تضع المعارضة فقط في اي تركيبة حكومية قادمة، وأن سوريا قد عَبرتْ الى حد كبير حتى الآن فخاخ السياسات الدولية والاسرائيلية، وما تم كشفه في الكتب (الرسائل) الأمريكية والفرنسية والبريطانية مؤخراً -تقصد عبر تسريبات ويكيليكس- يشير الى أن السكين كانت فعلاً على رقبتها، وأن مؤامرات إسقاط النظام كانت واقعاً لا خيالاً، وتساءلت الصحيفة: فهل يتصور أن تقبل سوريا بعد اليوم أن يكون لبنان فخاً لها؟ وبقدر ما يثار من احتمالات تهميش الحريري سياسياً، فإن المصلحة -بحسب العديد من المراقبين- هي أن يبقى في منصبه أو أن يستعيد دوره لاحقاً لو أحسن التصرف، لأن ما يمكن تنفيذه خلال توليه الرئاسة سيحمل أبعاداً محلية وإقليمية ودولية أكثر من تلك التي يمكن أن تحملها اي قرارات أخرى من رئيس حكومة آخر.