الرقم «54» يمثل اليوم عندنا دلالة كبيرة وقوية يجب التوقف عندها كثيراً لنتأملها. فهو يمثل ذكرى استقلال السودان- وهو بأعمار الشعوب ليس كبيراً وبأعمار الأفراد ليس هيناً فالطفل الذي ولد في ذاك اليوم هو الآن رجل راشد تخطى مرحلة الشباب ويقترب من مرحلة النضوج الكامل ولا نقول الكهولة فهل بلادنا اليوم كذلك؟ فماذا فعلنا اليوم بعد أربعة وخمسين عاماً من رفع راية الاستقلال وخروج المستعمر الانجليزي من البلاد وتسليمه دفة البلاد لأبنائها. قبل أيام كنت اتفرج على أحد الأفلام الوثائقية التي بثها التلفزيون والفيلم يحكي عن افتتاح الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري لمبنى مؤسسة السينما.. الفيلم أبيض وأسود ويغوص في تفاصيل عفوية التقطتها الكاميرا آنذاك ولكنها تجعلك تتفرج بانبهار على نموذج دولة عصرية. ينزل الرئيس برشاقة وحيوية من عربة التشريفات ويحيط به رجال الدولة في وسامة ووقار.. المبنى أنيق والحضور كذلك والوجوه مشرقة ومبتسمة.. تابعت لدقائق الفيلم ،والكلمات والمراسم والمبنى والأجهزة والسيارات، وتولد لدي الانطباع الذي نعرفه جميعاً أن المستعمر عندما خرج فقد ترك لنا نموذج دولة عصرية.. نعم من حق الوطن علينا أن نحيي ذكرى استقلاله وانعتاقه من براثن الاستعمار والاحتلال ولكننا أيضاً من حقنا أن نسأل السؤال الموجع هل هذا هو الاستقلال الذي أراده أجدادنا؟ومن أجله قدموا المهج والأرواح رخيصة؟ وهل هذه الشعارات التي تمناها الرعيل الأول ؟وهم يهتفون عاش كفاح الشعب السوداني وعاش السودان حراً مستقلاً. أن التاريخ يسجل بكل الفخر والإعزاز نضال الشعب السوداني وتطويره لوسائل المقاومة التي بدأت منذ أول يوم وطأت فيه أقدام المستعمر أرضه فكانت هناك البندقية والقصيدة و(الخريجون) و«الصحافة» والنقابات والأغنية والمسرحية حتى تحققت للشعب إرادته وعزته وسيادته الكاملة على تراب بلده. ولكننا الآن نرى كل ذلك يهتز ويضطرب ويتعرض من جديد لامتحان آخر في الوطنية وفي الحفاظ على السودان موحداً ومستقلاً من كل نوازع الاحتلال والتشرزم والاقتتال والتمرد والعنصرية والقبلية والشمولية والعمالة والانهزام وغيرها من الأمراض والعلل التي تحاصر اليوم جسد الوطن وتريده ضعيفاً واهناً لا يقوى على الصمود والبقاء. دعونا نستلهم هذه الذكرى العطرة ونحيي ذكرى الرعيل الأول من جيل الوطنيين الذين سلمونا الوطن كما قال الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري كصحن الصيني نظيفاً لامعاً أبيض لا شق ولا طق!!