معظم الراويات التاريخية التي حاولت أن تجد ارتباطا بين شمال السودان الحالي و جنوبه لا يوجد لها سند تاريخي وليس هناك أدلة مادية أو مخلفات حضارية تربط بينهما، وكلها تخمينات ضعيفة لا سند لها وتفتقد الأدلة المادية والتوثيق التاريخي. العالم القديم لم يكن يعرف غير إثيوبيا أو الحبشة أو النوبة في هذه المنطقة التي تسمى شمال السودان ، لم يرد اسم لقبائل غير القبائل النوبية في تاريخ السودان القديم وهى القبائل التي اختلط بها العرب والتي تم تعريبها في هذه المنطقة المعروفة بشمال السودان. إن أسوأ ما فعله بعض المثقفين هو توظيف التاريخ لإثارة الفتن والنعرات العنصرية، وإعطاء انطباع كاذب وملفق بان سكان شمال السودان ما هم إلا مجموعة من التجار والمهاجرين الذين استولوا على ارض الغير . وإذا حاولنا أن نطبق هذا المنطق على قراءة تاريخ العالم وان كان صحيحا فى بعض الأحيان ، فان العالم سيتحول إلى فوضى ، لان الملك ميناء مؤسس أول دولة في مصر قيل انه عبر البحر مع قومه من أسيا ، والعرب أتوا إلى إفريقيا واسيا من الجزيرة العربية و الأشوريين الذين طردوا الكوشيين من مصر أتوا من أسيا ، والمهاجرين الأوربيين طردوا الهنود الحمر وفرضوا عليهم التقهقر إلى المستوطنات في أمريكا التي ما زال بعضهم يعيش فيها، والجرمان عبروا من أوروبا و استوطنوا في الجزر البريطانية، وغير ذلك كثير، هذا المنطق لا يستقيم لإثبات حقوق سقطت وتلاشت بفعل الزمن والتاريخ ناهيك عن صعوبة إثباتها . في مقام التاريخ علينا أن لا نفتري على أحداثه وأدلته المادية والأثرية لادعاء حقوق تقوم على أوهام تاريخية عن مجموعة من السكان لا نعلم متى كانوا هنا و لا يعرف أين ذهبوا ، وما هي مخلفاتهم الأثرية أو التاريخية التي تؤكد أنهم كانوا يعيشون في هذا المكان. أن مثل هذه الأقوال التي يطلقها بعض المثقفين في اعتقادي تحمل سكان جنوب السودان ما لا طاقة لهم به، وبخلاف تجنيها على التاريخ فإنها تثير المرارات وتخلق تطلعات غير مشروعة أو مبررة. لقد حاول نيرون في بداية العصر الروماني في مصر 66 ميلادية أن يصل إلى منابع النيل وضاعت حملته وتراجعت بسبب الغابات الكثيفة والمستنقعات والتماسيح الشرسة التي كانت تمنع الوصول إلى تلك المناطق، وقد ظل ذلك العائق قائما حتى وصول جيمس بيكر إلى غندكرو . عندما جاء جون بيركهارت في عام 1814 إلى السودان لم يتمكن من الوصل إلى ابعد من شندى جنوبا ولم يذكر لنا شيئا عن ملاك للاراضى من السودانيين بخلاف أولئك الذين وجدهم من سكان شندى، وقال إنهم يتحدثون العربية أحسن من تلك التي سمعها في مصر وإنهم يزرعون المحاصيل التي وجدها فى مصر مثل « البامية» و«الملوخية»، البروفسور عبدا لله الطيب له حديث تلفزيوني مسجل يؤكد فيه ان دخول العرب الى السودان كان سابقا بفترة طويلة للقرن السابع الميلادي واتفاقية البقط ، ولعل ذلك أيضا ما ورد فى كتاب البروفسور حسن الفاتح قريب الله « السودان دار الهجرتين» . عاشت دولة سنار ثلاثمائة عام بالتمام والكمال ، فكيف يمكن لدولة قامت على نشر الدين الاسلامى واللغة العربية ان تعجز عن التواصل مع جنوبها القريب منها وتحدث فيه تحولا ضخما طيلة هذه القرون ، بينما نراها قد تواصلت مع البعيد عنها بمقياس المكان فى مكة والأزهر ، من المؤكد أن موانع جغرافية أعاقت ذلك التواصل . إن تاريخ السودان الحديث كله قام على فرضية غير صحيحة حول علاقة تاريخية بين الشمال والجنوب ، الأكاديميون السودانيون الراسخون يقولون لنا أن لملمة الاراضى السودانية بشكلها الحالي اكتملت بعد حملة محمد على باشا 1821 وتعيين إسماعيل باشا خديوي مصر صمويل بيكر حاكما للاستوائية فى عام 1869، ، وقد أدار بيكر المنطقة الاستوائية بعيدا عن الشمال وكانت مثلها مثل المناطق الأخرى التي ضمها الخديوي إسماعيل إلى إمبراطوريته كالصومال وأجزاء من يوغندا وإثيوبيا ، ولم تكن تجمعها إدارة واحدة، فصمويل بيكر لم يكن حاكما للسودان فى ذلك الوقت ، لان السودان كان يحكمه الحكمدار احمد ممتاز باشا ( 1871- 1872) وعندما جاءت المهدية لم تتمكن من إخضاع كل الجنوب وضمه الى السودان ، ولولا تقدم فرنسا نحو فاشودا 1896 لما ألحت بريطانيا بإصرار وضغوط من اللورد كرومر على خديوي مصر عباس حلمي الثاتى إعادة الاستيلاء على السودان بحجة إنه كان تابعا لمصر( ويقول عباس حلمي الثاني في مذكراته انه لم يكن راغبا في التوسع من جديد في السودان لولا ضغوط بريطانيا ) وبعدها توغل كتشنر إلى فاشودا، قام ريجنالد ونجت برفع العلم المصري فيها ثم عملوا على إخضاع القبائل الجنوبية بالتدريج . لقد أدار الانجليز الجنوب بعيدا عن مصر والسودان كإقطاعية خاصة بهم الى ان قرروا فجأة دون مبررات وقرائن قوية سوى رغبة بريطانيا الخروج من السودان ، وابتلعت الحركة الوطنية السودانية الطعم ، دون ان تعي تبعات ذلك الضم الذي كلف طرفي السودان دماء وأرواحاً أزهقت وأموال ضاعت على مدى أكثر من نصف قرن ، قال رياك مشار في مقابلة مع صحيفة الأهرام القاهرية أن بريطانيا ما كان ينبغي أن تسلم الجنوب إلى الشمال ، وكان من الأفضل أن تسلمه إلى الأممالمتحدة ، وفى هذا القول هو محق ، لان بريطانيا قد أخطأت في حق الجنوب كما اخطأ الشمال بقبول ضم الجنوب دون الاستناد إلى منطق تاريخي أو سياسي أو ثقافي ، وتسبب ذلك في آلام وأحزان للجميع . د. صلاح أحمد ابراهيم