لكل أمة من الأمم إرث أخلاقي وفكري وقيم وعادات وتقاليد تتوارثها الأجيال عبر مسيرة الأمم والشعوب، ويبقى وعاء هذا الإرث هو الدافع والحافز لاستمرارية وديمومة هذه الأمة مهما كان قطار التغيير المادي والتطور الزمني سريع. ولما كانت أمتنا من أعرق الأمم وأقدمها وجوداً، ولما كان لها إرث من الأخلاق والقيم التي أعطت لكافة شعوب الأرض مناهج ومدارس طبقها كل حسب حاجته، وأتى الدين الإسلامي ليعزز المفيد للإنسان فيها وينكر المفسد ويحاربه وخير دليل على ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ولا أجل ولا أفصح قولاً من كلام المولى عز وجل في محكم التنزيل: «كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر»، فهل بعد ذلك بيان على خيرية هذه الأمة.. ولنستحضر في هذه السانحة كل الأدلة والبراهين التي كانت عليها أمة الرقي والتقدم التي سبقت شعوب الله على وجه هذه البسيطة علها تشحذ لنا العزيمة وتوقظ بدواخلنا الأمل من جديد. فنجد أن الجاهليين من هذه الأمة كانوا يقرون الضيق ويوفون بالعهد ويصونون حق الجار ويحافظون على أعراض الناس حتى صدح أحد شعرائهم قائلاً: وأغض طرفي إذا بدت لي جارتيü حتى توارى جارتي مثواها وكانوا يعتزون بأنفسهم ويتباهون برجولتهم وبكرامتهم حتى ذهب عمر بن كلثوم إلى القول: ونشرب إن أردنا الماء صفواً ü ويشرب غيرنا كدراً وطيناً إذا بلغ الفطام لنا صبياًü تخر له الجبابر ساجدينا حتى جاء الإسلام بلسان عربي ليرفع شأن الجنس البشري ويخدم كرامة الناس، ويحافظ على نزاهة وكرامة الإنسان حتى فتحت لهم الأرض ونشروا النور في أصقاع البسيطة ونقلوها من جور الأديان إلى عدالة الرحمن وكرامة الإنسان، فانتجوا حكاماً وولاة أمور كسروا قصور الجبابرة ودكوا حصونهم وكانوا اذا ظلم طفل في أقصى بلادهم يسيرون لنصرته الجيوش الجرارة، وذاك موقف الحجاج في العراق في نصرة المرأة التي صاحت واحجاجاه عند قتل جنود ملك الهند زوجها وزملاؤه التجار العرب والقوها بين الحياة والموت على شاطيء شط العرب فلم يقبل إلا برأس ملك الهند أمام قدميه! وذلك موقف هارون الرشيد في نقفور ملك الروم وقوله له: «الرد ما ستراه عيناك وليس ما تقرأه..». وصرخة تلك المسلمة التي اعتدى عليها واستنجدت بالمعتصم بالله فصرخت «وامعتصماه» وماذا فعل عندها، قال «لبيك يا أختاه»، فسير الجيوش لنصرتها، فهذا كله خير دليل على القيم والشهامة والتلاحم التي عاش عليها سلف هذه الأمة. ولكن ما يجعل المرء يجترع الألم والمرارة في هذا الزمن الجليدي الصقيع الذي تعيشه الأمة اليوم هو أين ذهبت هذه القمم من أمثال أولئك القادة.. وهل أرحام نسائنا أصبحت عاقرة؟ وأين نامت هذه القيم والأخلاق والعزة؟.. وهل تغيرت جيناتنا وأصبحنا نحمل في أجسادنا مورثات هجينة. فترى اليوم وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع تنتهك أعراضنا وتهان نساؤنا في فلسطين والعراق ويضربن ويزج بهن في السجون وهن يطلقن آلاف الآهات والاستنجاد ولكن أسمعت لو ناديت حياً:! وتلامس أسماعهم ولكن لا تلامس نخوة المعتصم! فهل أصبح حكامنا وولاة أمورنا نتاج أمة أخرى أم قادمين من نيزك آخر؟.. لست أدري. ونرى اليوم أطفالنا وشبابنا وكهولنا يقتلون ويسجنون وتمارس عليهم كل أنواع الهوان والذل وعلى مسمع ومرأى العالم أجمع، ولا أبلغ على مدى وحشية أبناء الكيان السرطاني لأمتنا من موقف ذلك الشاب الفلسطيني الذي قام المستوطن الصهيوني من دهسه بسيارته مرات على مرأى من الجيش الصهيوني الغاصب ولم نرَ موقف استهجان واحد أو غضبة واحدة وكأننا أصبحنا في عداد الأموات الذين يسيرون على أقدامهم. ولكن المفارقة التي تبعث على الدهشة أننا أصبحنا نثأر من بعضنا بعض ونتوعد إخواننا، رجعنا وكأننا الى العصور الجاهلية التي كانت فيها قبائل العرب تتناحر وتقوم بينها الحروب على كلب! أو جمل! أو بهيمة! وخير دليل على ما حصل بين قطبي أمتنا العربية جزائر المليون شهيد ومصر الإسلام والعروبة اللتين كانتا منارتينا للجهاد والعزة والكرامة العربية والإسلامية على مدى العصور والتاريخ.. ومن أجل ماذا؟.. لست أدري؟ وإننا نرى هواننا على الناس لم يقف عند حد الإعتداء على جنسيتنا وآدميتنا، بل نرى أن مقدساتنا ومساجدنا أصبحت عرضة للانتهاك والإعتداء من حفدة القردة والخنازير وذاك المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين مسرى نبي الهدى والبشرية، يئن ويستغيث تحت وطأة يد الغدر الهمجية ولكن صلاح الدين غائب!!.. وأمراؤنا أصبحوا من صنف الشوائب!! رغم ذلك نتهافت على أنوار الغرب وديمقراطيته المزيفة، نقيم لهم المؤتمرات والمنتديات والأسواق التي يبيعون منتجاتهم بها، بينما يستكثرون علينا مآذن ومساجد يتعبد فيها أبناء ديننا من أبناء جلدتهم أو ممن يحملون جنسياتهم.. أوليس حرية الأديان من أبسط أنواع ديمقراطية الإنسان؟.. لست أدري!! فهنا يدور السؤال الكبير من قتل الناموس في النفوس العربية والإسلامية وجعلها دمٍيً متحركات بريموتات كهربائية؟ ومن جعل هذه الأجيال التي هي نتاج لأمة كان أسلافها سادة القوم حتى قال شاعرهم: قوم هم الشمس كانوا والورى قمر* ولا كرامة للشمس لولا للقمر من جعلهم ينظرون إلى جلادهم ومن سرق بسمة أطفالهم، نظرة الخانع الخائف الذليل؟ - ومن جعلهم أمة على هامش التاريخ يصاغ قرارها في مواخير الغرب. وتصادر إرادتها في أسواق ودهاليز الساسة الصهاينة والمتصهينين حتى لم تعد لها مكانة ومنبراً بين أمم وشعوب هذا الكوكب، وكما قال الشاعر عمر أبو ريشة: أمتي هل لك بين الأمم * منبر للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرقُ خجلاً * من أمسك المنصرم فعلاً أصبحنا نطرق الطرف من الخجل والذل والهوان!! لن نطيل في التباكي والأسئلة الاستفهامية لأنها فعلاً تدمي القلب ولكن نقول إن عزاءنا ورغم كل ما وصلنا اليه أننا بُشرنا بالنصر وأننا أمة تحمل الخير والعزة في مكنوناتها وذلك مصداقاً لقول سيد ولد آدم الحبيب المصطفى: «الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة». وهذا هو الوقود الذي يجب أن تُعاد محركات هذه الأمة للعمل به قبل أن يلفظها التاريخ وتدوسنا الشعوب، وتلعننا الأجيال القادمة، ولكن لكل نصر أسبابه ولكل ثورة مقوماتها، فنحن «قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله»، فلابد من: - الرجوع إلى الله والتمسك بتلابيب الإسلام والبناء على أساسه المتين. - رفع الظلم فيما بيننا وبين الآخر، فالظلم تفضي عقباه إلى الندم. - احترام الشعوب ومنحها الحرية الحقيقية المدروسة على منطوق الحياء والخجل والحفاظ على القيم. - إعداد الأمة والاستفادة من مقدراتها الاقتصادية لصياغة مجتمع نزيه يعيش المرء فيه بعدالة التوزيع للثروة والتعاون لقهر الفقر «فنحن أمة تملك الكثير». - استيعاب تطلعات أبناء الأمة وتحفيز قدراتهم لبناء المجتمع العلمي الذي يواكب عصور التقدم والعلم وإدراج الشورى في الأمور وليس الجبر والكسور في الوصول إلى القصور، فلنلحق أنفسنا قبل فوات الأوان وعندها «لات ساعة مندم» لنتعظ بما يحصل على ساحة الحاضر، فليس هناك من فارق لحاكم أو محكموم فكلهم في الذل سواء ما لم يضعوا لأنفسهم مكاناً تحت الشمس. - ولنتذكر دائماً قول الشاعر الفيتوري: فتاريخ الشعوب اذا تبنى * دم الأحرار لا يمحوه ماحٍ - فبعد كل ما حصل إن لم ننفر اليوم فلن ننفر أبداً، والعمر واحد والحياة فانية ولكن: - آثار الشعوب لا يمحوها الزمن - والحرية لها ثمن - والمؤمن ممتحن - ولا كرامة لأمة لها وطن ممتهن لكم أطيب المنى