والصحافة على الرغم من إيماني الذي لا يساوره الشك بدور الإعلام كسلطة رابعة بصفة خاصة إلا أنني لست ميالاً إلى مناقشة المواضيع ذات الطبيعة العامة بها وفي هذه المرة أرى ضرورة ذلك لأهمية ماسة تعرض لها علماً بأن كثيراً من الناس يجهلون أو ربما ليست لديهم معلومات كافية تساعدهم في معرفة ما يحدث في هذا المجال. يعتبر السودان من أول الدول التي أنشئت نظام المعاشات في العام 1904 علماً بأن أول نظام في العالم أقامه بسمارك في عام 1883 أي بعد عقدين من الزمان استطاعت حكومة السودان اللحاق بركب الدول الكبرى في هذا المجال. ومنذ ذلك الحين ظلت الدولة تطور في هذا النظام حتى صدر آخر قانون معاشات للخدمة العامة ل 1993 المعدل ل 2004. بدأت المعاشات كإدارة من إدارات ديوان شؤون الخدمة ثم تحولت في بداية السبعينيات من القرن الماضي إلى مصلحة معاشات تتبع لوزارة المالية ثم أصبحت تابعة فيما بعد إلى وزارة الخدمة العامة والإصلاح الإداري ثم إلى وزارة العمل وأخيراً أصبحت تتبع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والضمان الاجتماعي. وهذه الأيلولة من وزارة إلى أخرى لم يكن لها تأثير كبير في أداء مصلحة المعاشات طالما أن وزارة المالية الاتحادية ظلت تقوم بدفع المستحقات من المعاشات والمكافآت إلى المتقاعدين. وفي عام 1991 صدر قانون صندوق المعاشات والذي تم تطبيقه اعتباراً من العام المالي 1994 - 1995 والذي بموجبه تم تكوين مجلس إدارة للصندوق وأصبح يمول ذاتياً وذلك بتحصيل الاشتراكات إضافة إلى المبالغ التي تدفعها وزارة المالية كالتزامات متنوعة بما في ذلك القيمة الاكتوارية للمعاشات التي يجب أن تدفعها إذا لم يتم إنشاء الصندوق. وبقيام الصندوق تحولت الإدارة من نظام التمويل المستمر pay as you go system والذي يعتمد كلياً في دفع المستحقات للمتقاعدين من الخزينة العامة Funding sys tem وهو نظام يعتمد كلياً على نشاط إدارة الصندوق بجمع وتحصيل الاشتراكات على أن يقوم بدفع المستحقات الواجبة الدفع على أن يتم استثمار ما تبقى من تلك المبالغ. كما سبقه على ذلك رصيفه صندوق التأمين الاجتماعي في ذلك الاتجاه. هذا التحول في أسلوب إدارة أموال المعاشات كان من الممكن أن يؤتي أكله إلا أن ذلك لم يحدث وذلك لظروف ومتغيرات كثيرة يمكن أن نجملها في الآتي: أولاً:- تحصيل الاشتراكات مع مرور الوقت لم يكن بالمستوى المطلوب خاصة وأن كثيراً من الوحدات الحكومية تقاعست عن دفع الاشتراكات. ثانياً:- غالبية الولايات لم تكن تهتم كثيراً بخصم هذه المبالغ وتحويلها إلى إدارة الصندوق مما أدى إلى تراكم المديونية إلى أرقام فلكية. ثالثاً:- تقسيم الولايات إلى ثلاث وأربع ولايات جعل من الصعوبة تحديد مسؤولية المديونيات السابقة وبالتالي ضاع على إدارة الصندوق كثير من الأموال. رابعاً:- غياب نص قانوني يُلزم هذه الجهات بدفع ماعليها من التزامات مما ساعد كثيراً في تبديد أمواله الواجبة التحصيل. خامساً:- زيادة المستحقات التي يجب أن يدفعها الصندوق لمتقاعديه نتيجة لتبني سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة لبعض الهيئات والمؤسسات العامة. كل ذلك لم يترك أموالاً كفائض ليقوم الصندوق باستثمارها لمقابلة المستحقات الواجبة الدفع. وأصبح الصندوق غير قادر على القيام بواجبه بالصورة المطلوبة حتى الدراسات الاكتوارية التي أجريت أخيراً لهذه الصناديق توضح بجلاء عجزاً في التوازن المالي في إيراداتها ومصروفاتها بالقدر الذي سيؤدي إلى انهيارها تماماً. ونحن تحت هذه الظروف المالية الصعبة للصندوق نفاجأ بتحرك جاد من إدارة الصناديق لدمج أو ضم الصندوقين تحت إدارة واحدة تحت مشروع تطوير الحماية الاجتماعية وهما صندوقاً المعاشات والتأمين الاجتماعي. السؤال:- ما هو الهدف من دمج هذين الصندوقين؟ إذا كان هذا الدمج سيحل المشكلة التي يُعاني منها صندوق المعاشات لما ترددنا في قبول ذلك. ولكن ذلك لن يحدث لأنني كما ذكرت المشاكل التي يواجهها صندوق المعاشات فإن صندوق التأمين الاجتماعي يُعاني من مشاكل ومعوقات عديدة يمكن إجمالها في الآتي: أولاً:- يقوم الصندوق الاجتماعي عند تسوية المعاش باعتماد المبلغ بكامله في التسوية الأمر الذي أدى إلى رفع سقف المستحقات إلى مبالغ كبيرة تعاني منه إدارة الصندوق. ثانياً:- بتعديل القانون في 1/4/2004 أصبحت خمسة وخمسين هيئة عامة ومؤسسة تحت مظلة صندوق التأمين الاجتماعي. ثالثاً:- الهيئات المذكورة ذات عمالة كبيرة «السكة حديد،الموانيء البحرية، الطيران المدني، الخطوط الجوية وغيرها» وهي من الجهات التي تقع تحت سياسة الخصخصة وإعادة الهيكلة وبالتالي سيتقاعد غالبية عامليها. رابعاً:- سياسة الخصخصة وإعادة الهيكلة ستكلف الصندوق مبالغ طائلة كمستحقات تدفع لهؤلاء المتقاعدين. خاصة أن التسوية كما ذكرنا تشمل المرتب بكامله. خامساً:- علماً بأن الاشتراكات السابقة 1/4/2004 قبل تعديل القانون الخاصة بهذه الهيئات والمؤسسات لم تحل إلى إدارة صندوق التأمين الاجتماعي. بمعنى آخر حولت إليه التزامات مالية واجبة الدفع دون تغطية مالية (الاشتراكات). سادساً:- أيضاً إدارة صندوق التأمين الاجتماعي تعاني من نفس المشكلات الخاصة بالتحصيل حيث إن له مديونية عالية على كثير من الوحدات الحكومية والولايات. هذه وضعية صناديق التأمين الاجتماعي - المعاشات والتأمين الاجتماعي فكيف يتم دمج صندوقين كل يعاني من مشاكل ومعوقات تحول دون أدائه بالمستوى المطلوب. ولعل من الأهمية بمكان أن نذكر هنا أن أي تعديل في قوانين التأمين الاجتماعي ناهيك عن دمجها يستوجب إجراء دراسة اكتوارية توفر لها معلومات دمغرافية واقتصادية كافية ونتيجة لهذه الدراسة يتم التوصية بالدمج أو عدمه. هذا لم يحدث لا في تعديل القوانين في 1/4/2004م ولا حتى حين فكّرنا في الدمج. إن هذه الصناديق تقوم برعاية حقوق أضعف حلقات المجتمع من كبار سن ومرضى وأرامل وأيتام ومن الذين دفعوا ضريبة الوطن غالية. على الأقل أن تقوم بالحفاظ على حقوقهم لأن المعاش هو عبارة عن اشتراكات جمعت من قوت عياله بالتالي هي عبارة عن جزء من المرتب لازم الدفع عندما يحين ذلك. وان الطريقة التي تسير عليه إدارة هذه الصناديق بدمجها سيؤدي إلى انهيار النظام بأكمله خاصة أن صندوق التأمين الاجتماعي بمثل القطاع الخاص ب 93% من أمواله فكيف تتم المجازفة والمخاطرة بحقوق جهات التزمت بالقانون وقامت بدفع ما عليها من اشتراكات مع جهات حكومية وولايات لم تقم بدفع ما عليها من اشتراكات وتقوم برعايتها للصندوق الآخر (صندوق المعاشات). إذا كان بالضرورة الاتجاه نحو الدمج من إحضار بيت خبرة يقوم بحصر أصول كل صندوق على حدة وتحديد المركز المالي لكل منهما وإصدار التوصية اللازمة مع إبراز المحاذير والمهددات التي تقف حائلاً دون تنفييذ هذه الرغبة المستحيلة. نرجو من الجهات المسؤولة أن تضع ماذهبنا إليه في الاعتبار حتى لا تقع في المحظور بدمج هذه الصناديق دون دراسة علمية قائمة على معلومات صحية وحقيقية. والله من وراء القصد مدير عام معاشات ولاية الخرطوم «الأسبق» مستشار ولاية الخرطوم للمعاشات والتأمين «السابق»