والكلمة مثل الطلقة.. عندما تخرج لن تعود أبداً.. أبداً.. والكلمة أشد خطراً وخطورة.. من أي دانة.. أو قذيفة أو قنبلة.. وبالأمس.. وكل الدنيا مشدودة في دهشة.. في عجب.. بل في فزع إلى شاشات الفضائيات.. والدنيا كلها «مسمرة» على أجهزة الراديو.. تستمع لكلمات مجنونة.. منفلتة.. من دكتاتور ليبيا.. وهو يلِّوح ويهدد شعبه بصب نيران الجحيم عليه.. تقف الدكتورة سعاد الفاتح وتماماً تحت قبة البرلمان.. لتقول حديثاً عجباً.. قالت الدكتورة وهي في قمة انفعالها.. وكأنها.. قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.. وكأن الحكومة حكومتها قد امتلكت ليس الوطن فحسب.. بل حتى شعبه.. تقول الدكتورة وهنا لا أجد بداً ولا مفراً من إيراد كلماتها بالنص.. وأنا كلي حزن.. وأسى وأسف.. لأردد كلماتها التي فجرتها كالقنابل.. وأين.. تحت قبة البرلمان.. حيث الكلمات تتلى بميزان الماس أو يجب أن تكون.. قالت الدكتورة.. «ليه نحن ما نتجه للزراعة ونبطل الكسل العايشين فيهو ده مفروض الأولاد الخريجين ديل نوديهم يزرعوا على النيل دا شوفوا المساحات دي من هنا لحدي جبل أولياء ليه ما نزرعها ونسن قانون للشباب ديل عشان يزرعوا ونطبقوا بالدق بالسوط..».. لا أطلب منكم أحبتي.. غير أن ترددوا حسبنا الله ونعم الوكيل.. ولا أطلب من الدكتورة غير أن تحدد لنا نوعية «السياط».. هل هي تلك التي يهش بها الرعاة على الأغنام.. أم هي سياط «بلسانين».. أم هي سياط مزركشة كسياط أولاد الطهور.. أم هي سياط «بطان» أم لعلك تقصدين «سياط عنج».. ونطلب من الدكتورة الموقرة أن تحدد لنا أي المفارز هي تلك التي تسوق الخريجين أمامها.. ثم من تعثر منهم يجد السياط وهي تلهب ظهره جزاءً وفاقاً لعدم زراعة الخضار والفاكهة.. لتذهب في «القفاف» و «السلال» والأكياس إلى «سادتنا» المترفين.. لتعود مرة أخرى السخرة وفي أنصع وأوضح صورها.. أنا لا أملك حرفاً واحداً أقوله غير متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً يا دكتورة؟؟ وأعلمي أنه لن يذهب خريج واحد للزراعة تحت هذا التهديد الذي ما قال به أحد قبلك.. يا سلام.. يذهب الخريجون جبراً و «بالدق» للزراعة.. وأنتم.. تفكهون على الأرائك.. تحت حفيف المراوح وأزير أجهزة التكييف.. أما يكفي هؤلاء الخريجين.. إنسداد أفق الأمل أمامهم.. وحلوكة ظلام المستقبل الذي يمتد أمام خطواتهم المتربة وهم «يتحاومون» من وزارة إلى وزارة.. من شركة إلى شركة.. بحثاً عن عمل فشلت الحكومة تماماً في إيجاده لهم.. إنك يا دكتورة لم تجربي الزراعة.. بل لا تعرفين الزراعة مطلقاً.. وأبداً اللهم إلا تلك الأزاهير والرياحين.. ونضارة زهرة «البالمر» التي هي في أحواض الحدائق العشبية المزهرة.. أو وهي تنشر روائحها العطرية على «الأصايص» والزهريات الملونة.. ولكن زراعة بصل وشمار.. وذرة.. وقمح فلا.. كان يمكن أن تكبحي حماسك الدافق.. وتنتقين الكلمات الموزونة الهادئة.. مثلاً.. كان يمكن أن تخاطبي أبناءك الخريجين وأنت لهم ناصحة.. وفي كلمات هادئة.. لماذا أنتم تبحثون عن الوظيفة.. طالبوا الدولة بأن تقتطع لكم حتى لو فدان واحد.. وأن تمدكم بطلمبات رافعة للمياه.. وأن توفر لكم البذور.. عندها.. سيكسب الوطن وقبله أنتم.. ختاماً يا دكتورة.. نقول.. إن هذا الشعب الأبي النبيل المدهش الفريد على أتم استعداد للصبر على الجوع.. والفقر.. والبؤس.. وشظف العيش.. لا مانع لديه أن يبيت على الطوى.. ولكنه أبداً لا يحتمل الإهانة والتخويف.. والاستعلاء والمهانة والاستفزاز.. ولا أجد استفزازاً أكثر من كلماتك هذه.. ولتعلم الحكومة أن مثل هذه الأحاديث هي التي تفتح أبواب الجحيم على وطن نتمناه آمناً.. سليماً.. مسالماً..