ما أعظم غضبك يا شعبي.. ما أنبل خلقك يا شعبي.. ما أرحب أرضك يا وطني.. وصدقوني.. لم أفقد الثقة في شعبي مطلقاً.. ولم تهتز صورته البهية البديعة في ناظري لحظة.. ولكني لم أكن اتصور أنه بهذه العلياء.. والسمو والشموخ الذي يتطاول حتى حواف السماء.. وكنت قد كتبت بأعواد مشاعل.. بل بأطراف أسنة وخناجر.. عن صور فساد تضرب بقوة في أعمدة الإنقاذ.. كان حديثي.. شجاعاً.. وباسلاً.. وصريحاً وصادماً.. ولكنه ينطلق من خوفي على الوطن.. وليس حكومة الوطن.. كان تعبيراً عن فزع حقيقي.. من نذر عواصف إن هبت لا تقتلع أوتاد خيمة الإنقاذ.. بل قد تعصف بأجزاء غالية من بلدنا الجميل البهيج.. كنت قد أقنعت روحي.. وكبحت لجام وذمام قلمي.. فقد تصورت أني قد غطيت وأحطت وأوفيت.. ولكن وفجأة.. تلقيت سيلاً هادراً.. من مواطنين لا أعرفهم وفقط تربطني بهم وشيجة الوطن والمواطنة.. التي لا أرى أبهى منها وشيجة.. ولا أصلب منها جبال.. سعدت حد الطرب وفرحت حد النشوة المجنونة المعربدة العاصفة.. وبريدي تتفرغ فيه أحقان وآهات.. وزفرات تذيب حتى الأسفلت.. عندها أدركت أننا كلنا في الهم شرق.. إننا كلنا يجمعنا هدف واحد.. نمشي في طريق واحد.. نحزن جماعياً.. ونسعد جماعياً.. صحيح أن كل الرسائل تحمل لي صوراً عن الفساد بالاسم والصوت والصورة.. وصحيح أيضاً أن هناك من يكتب عن فساد تراه العين وتلمسه الأيدي و«تشمه» الأنوف من فرط نتانته.. ولكنهم لا يعرفون لكشف مستنداته طريقاً.. وهناك رسائل.. تحملني أكثر مما احتمل.. وتظن بي خيراً بل تذهب.. إلى الحد الذي تعتقد أني عضو في مفوضية الفساد.. بل تتصور أني أنا هو المفوضية ذاتها.. ولهم أقول.. شكراً لكم.. وشكراً للوطن الذي أنجب مثلكم.. وشكراً للعواطف التي مسحت بل أطاحت بأنظمة عربية كانت تظن أنها راسخة.. وباقية في القصور الملكية والجمهورية حتى قيام الساعة.. وأقول لأحبتي الذين كتبوا لي.. إني أيضاً أعرف فساداً.. وينهض أمام ناظري فسادٌ.. ولكني أيضاً لا أملك له مستنداً.. وبالمناسبة متى كان المفسد أو اللص... غشيماً.. مسكيناً حتى يترك وراءه أدلة وبراهين ومستندات.. هذا واجب المفوضية.. هي القادرة وحدها.. إضاءة الأركان المظلمة والمشبوهة.. حتى يعم الضياء أركان السودان.. استوقفتني نماذج من الرسائل الباهرة.. ولا بأس من تلاوة أو كتابة بعضها.. رسالة تقول.. لماذا كل شباب المؤتمر الوطني.. أو قل مجموعة مقدرة من شباب المؤتمر الوطني والتي هي «قريبة» من النظام.. لماذا هي منعمة مترفة.. تمتطي ظهور أفخر السيارات.. وتتقلب في مخدات الترف الأسطوري.. وهل مثل هؤلاء يدافعون عن النظام.. لو تعرض النظام لعاصفة أو حتى نسمة سحر.. ورسالة تقول في غضب بل تسأل في حرقة.. بل تقسم في جرأة.. بل تتيقن في قوة.. أنه لا يوجد في منزل وزير أو والي.. أو دستوري أو قيادي حكومي أو حزبي عاطلٌ واحد.. بل يذهب ذاك الغاضب الواثق وهو يتحدى أن يكون ابن أو ابنة وزير واحد عاطلاً أو عاطلة عن العمل.. وآخر يسأل في براءة.. عن الأموال المهولة السائلة.. التي يصرف منها بعض المتنفذين تبرعاً.. وإكراميات.. وهبات نقدية وعينية.. هل هي من مرتباتهم الشخصية.. أم هي من مال الدولة الذي هو مال الشعب.. وهل هناك «فواتير» ومناقصات.. أم هي فوضى عارمة.. ورسالة يقول كاتبها.. إنه يعرف أحد «المواطنين».. وقد كتب اسمه كاملاً.. قال إنه كان من البؤس بحيث إنهم كانوا «يطعمونه» ثم «اتشربك» في المؤتمر الوطني.. وهو اليوم وبحمد الله و«بدفعة» قوية من أيدي متوضئة.. هو اليوم يمتلك «دقشة» من المنازل وكمية من «العربات» وكمّاً هائلاً من الأموال.. ومئات «العصي» والشالات..