لابد لأي سلطة لكي تقترب من الحد الأدنى المطلوب منها لتكون قانونية وفاعلة ومقبولة وحرة، لابد لها أن تنطلق من مرجعية سياسية أو دينية واجتماعية كذلك اقتصادية، لتعبر عن هوية الوطن الذي هي منه وترد إليه مضمون احتياجاته التاريخية بما يواكب المتغيرات المحيطة بالوطن، كما أنه لابد لهذه السلطة أن تتمتع بقدر مقبول من الشرعية المنصوص عليها في أي من الدساتير المعمول بها في الوطن العربي سواء كان هذا الدستور دينياً أو وضعياً وأي معاناة أو نتوءات تعترض مسيرة السلطة والشعب وفق معيار الرضا والقبول وتشكل في آخر الأمر فراغاً جزئياً وأن مجموعة الفراغات إذاً يمكنها أن تفضي إلى فراغ كبير يعمق الهوة بين الرتقتين (السلطة والشعب)، وهي أيضاً تجاذبات واستحقاقات الحرية والديمقراطية في كل زمان ومكان، وأي سلطة لا تكترث لتوافقها مع هذه المعايير تصبح ديكتاتورية، والسلطة المطلقة هي بلا شك مفسدة مطلقة، ولا أكون مخطئاً إذا قلت إن الحالة المصرية قد تندرج تحت طائلة هذا التحليل.مع ذلك لابد من إدراك أن أي دستور ولأي بلد ليس هو ب(البقرة المقدسة)، وإنما ينبغي الإقرار بأنه يمكن تعديله أو إلغاؤه إذا ما اقتضت الضرورة، لأن المصلحة العليا تسبق الدستور، بل هي المنشئة والمحركة والحاكمة له.. ولكن لا ينبغي أن يتحول الاستثناء إلى أصل والمؤقت إلى دائم، بمعنى أنه لا يجوز أن تنتهك حرمة الدساتير في البلدان العربية للأسباب الشخصية دون الموضوعية وإلا ستكون هذه المرونة وتلك الفسحة مدعاة وذريعة للعبث بمواد الدستور دون ضابط أو رابط. إن حالات التعديل أو التبديل في الكثير من أقطار الوطن العربي كانت جميعها بقصد إفساح المجال للمزيد من سنوات الحكم والسيطرة، ولم تسجل في الأقطار العربية حالة واحدة للأغراض الاجتماعية أو الاقتصادية وإذا حدث في الأخيرة فإنه يسجل لصالح الشركات أو الأفراد المحسوبين على النظام السياسي، وهي بلا شك الازدواجية التي أفضت إلى تفاقم أعمال العنف أو الحراك السياسي والطائفي بالتزامن مع تراجع الخيارات الوطنية والقومية، والكل يصب في صالح التبعية للغرب والشروع في تسوية الصراع مع إسرائيل دون مكاسب حقيقية على الأرض.ثمة مقولة ذائعة الصيت في الوطن العربي تقول إن الحكام لا يعرفون الناس إلا عند التمديد أو التجديد في الانتخابات أو الاستفتاء (الشكلي).. حتى الأحزاب، فهي لا تخرج من إطار هذا الاتهام، أضف إلى ذلك فإن الحكام بحاجة دائمة إلى من يتسلطون عليهم لكي يتأكدوا من أنهم سلطة، وأنهم فوق الجميع.. وللتلطيف فإن الحاكم هو كبير العائلة وأب الجميع كما في الحالة المصرية. في الحالة المصرية كان الدستور قديماً ومنذ الحقبة الخديوية كان يطاله التعديل والترفيع، لكن لصالح الفئة الحاكمة.. ثم لصالح الفرد الحاكم (كبير العيلة)، كان هناك (النفس الأبوي) المتسلسل عبر جنيات الفرعنة المتمكنة من فقرات الحكم المصري.. استغرق التاريخ المصري في إنتاج حالات الأبوة وتماهى في ذات (الملك الإله) ليفوق الفرس والروم في تنافس أبحر عباب الزمان حتى طال تغييب عقلية الشعب (لا أريكم إلا ما أرى).في المشهد الليبي أصاب السلطة ما أصابها من تضخم في الذات الحاكمة وسيطرت ال(أنا) على كل المفاصل، كما استقطبت بفاعلية أرواح (شيشنق) و(هانيبال) من باطن التاريخ ليتحول الشأن إلى ملكية غير معلنة هو القائد الأممي وهو زعيم العرب وإمام المسلمين وحين (يتكرف) أنفاس الماسونية يتجاوز (الرئيس الواجب الاحترام)، ليصبح ملك ملوك أفريقيا، ذلك الطوطم الذي تحلقت حول عرشه كتائب المرتزقة وجنود الانكشاريه، لكن الغفلة التي طالت العقود الأربعة عتمت على القائد الأممي كل سيناريوهات التساقط.. فتناثرت الأممية والزعامية والملكية ولم تبق إلا الجماهيرية التي حاصرته في (زنقة) العزيزية. من خصائص السلطة في الوطن العربي إصرارها على تحويل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية إلى آلية لحماية نفسها، وهذا أوضح الأدلة وأدمغها على ضعف الشرعية أو ضعف إحساسها بالشرعية، ففي الدول الديمقراطية ينظر إلى عمل المخابرات وأمن الدولة بحسب وظيفتها الأساسية والدستورية من ضرورة استشعار الأخطار المحدقة بالدولة لجهة أوضاعها اللوجستية والإستراتيجية، وهي في الغالب تعنى بكيفية إدارة الصراعات السياسية والأمنية ضد الدول المعادية أو المناوئة والمنافسة وكذلك المناهضة.في عالمنا العربي وأفريقيا سخّرت السلطة عمل هذه الأجهزة لخدمة أمنها الخاص وضمان استمرارها، ليس هذا فحسب وإنما جشع السلطة وهاجسها الذاتي قد دفع بها إلى زرع أفرادها في كافة مؤسسات الدولة وفق مفهوم الحزبية والعائلية أو الطائفية.ومسألة الولاءات مقدمة على الكفاءات، واندثرت أو كادت التكافؤية، وهي مشكلة دفعت بالآخرين إلى حالة من السخط والقعود عن الأداء والإنجاز، ولما كانت مجرد الحزبية أو الطائفية والولائية كافية وضماناً لاستمرار المسؤولية، فقد استشرى الفساد وعم الترهل أو كما قال أحد الباحثين (بدأت السلطة تعاني تضخم شراهة الاستيعاب وسوء التصريف).لعل أكبر دلالة على انصراف السلطة العربية إلى حماية نفسها فقط، هو ما تلمسه الشعوب.. وفي السنوات الأخيرة من بروز ظاهرة (الشرطة الخفية)، إذ يرى المحللون أن المشهد الكلاسيكي لرجل الشرطة قد انتهى، ومع مرور الوقت تضاءل الاهتمام بمهام كانت ألصق بواجباتها، وانصرفت إلى حشد الحماية حول المسؤولين وأملاكهم.. وهي الظاهرة التي أفضت إلى التبلور التدريجي لظاهرة (العذاب).. صار رجال المافيا من البلطجية هم شرطة العهود الجديدة. وبعد.. لقد جاء زمن الثورات والمواجهات الجماهيرية الكبرى ولابد من مد جسور التواصل بين الشعوب العربية وينص القرآن الكريم (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العظيم. لابد من تسوية وتنسيق بين كل التيارات القومية والإسلامية باستثناء الطائفية التي سنشهد غيابها في هذا الزخم، لابد من التجمع حول مشروع عربي حضاري نهضوي تقوم عناصره على عوامل متضافرة هي الوحدة والديمقراطية والتنمية والتجدد الحضاري. ونواصل بإذن الله