دخول ولاية النيل الأزرق دائرة الضوء السياسي الداخلي والاقليمي ثم الدولي، جاء بمكر ودهاء قائد الحركة الشعبية الراحل، وبايعاز وتخيطط غربي، حيث عمد الى جذب وجرجرة ما يسمى بمناطق الهامش السوداني الى حلبة الصراع الداخلي لتوسيع جبهات المواجهة القتالية للحكومات السودانية المتعاقبة، والذي- أي الصراع- قاد في خاتمة المطاف الى تدخل المجتمع الدولي المرابط والمراقب والمتوثب لفرض سياسة ما أو أمر ما، وهذا لعمري ما وقع وحدث فعلاً، حيث صارت المنطقة وأخريات واحدة من كروت الضغط على السودان أو الإنقاذ تحديداً لياً للذراع، وتقديماً للتنازلات التي يخطط عبرها أو بينها لبداية العد التنازلي لتصدع الدولة الواحدة، بحيث يبدأ التفكك الى دويلات، وذلك هو القصد أو الهدف البعيد للولايات المتحدةالأمريكية خلال تنفيذ استراتيجيتها الموضوعة والمعروفة تجاه الشرق الأوسط ثم القرن الافريقي بالمفهوم الجديد، والسودان قلب القرن الأفريقي والنيل الأزرق وجبال النوبة منحنى هذا القرن، أي منتصف القوس الذي تنطلق منه السهام شمالاً لتحمي الجنوب، والجنوب الافريقي بصفة خاصة من التغلغل الإسلامي تحديداً ثم العربي بالضرورة. في مقال سابق تناولت أن الإنقاذ حكومة أو حزباً لم تتعامل مع حالة النيل الأزرق وفق خصوصية التركيبة السكانية أو الجغرافية من ناحية الجوار الاقليمي القديم أو الجديد، ثم المطامع الغربية، وما قد ينجم عنها من مستجدات تكون خميرة عكننة لمزاج الدولة في تصريف شؤونها، وإدارة ولاياتها، بل ويمكن القول أيضاً إن الدولة قد تكون راكنة أو ضامنة لموقف المنطقة موقعاًوولاء، لذا لم تتعامل طيلة الفترة الانتقالية لما يجب من اجراءات فرض الهيمنة والسيطرة إلا في حدود، وهو ما أفضى في عاقبته الى متغيرات كثيرة وخطيرة ومثيرة من أخطرها أن الحركة الشعبية استطاعت تنفيذ سياسة ملء الفراغ الذي أحدثه غياب المؤتمر الوطني في بعض المناطق سياسياً واجتماعياً. الانقاذ كثورة حزمت ووحدت النيل الأزرق من خلال المؤسسات الرسمية والشعبية، وحشدت الطاقات، وكما يقال سدت الفرقات فاطمأنت القيادة العليا في المؤتمر الوطني الى ما غرسته الشرعية الثورية في النفوس والعقول، ثم توحيد الجهود في القتال عبر مؤسسة الدفاع الشعبي، لقد تمكنت ونجحت الإنقاذ الفكرة والوسائل والمقاصد والغايات، في حين فشل الحزب وكوادره المحلية في الاستفادة والاستيعاب والتدبر والتوجيه والرعاية، الحفاظ على الغايات التي من أهمها استصحاب أهل مكة بكل ألوان طيفهم وانتماءاتهم، وأن يكون ذلك الاستصحاب بالله وفي الله وفي الوطن، واستبعاد المصالح والمكاسب الذاتية، وهو أمر أثبتت سنوات التدافع السياسي المتأرجح، أن قيادات الحزب وكوادره في الولاية، لم تكن على مستوى ما بذله وقدمه المركز، كما أن المركز نفسه جانبه التوفيق في اختيار من يدير عنه أو له أو معه المنطقة، بفهم انقاذي خالص، بل اكتفى ببعض أهل الشعاب، حيث اتضح أنهم من اللادراية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن. لقد فشلت في الاستفادة من القاعدة الجماهيرية الكبيرة التي تكونت للإنقاذ في فجرها، لقد أعيت القبلية والجهوية الضيقة والولاءات تفكير القادة والكوادر، فهي قد لعبت دوراً كبيراً في التنسيب للمهام والوظائف، كما أن التنمية على محدوديتها ارتبطت بذات المنطق والمفهوم، مما أظهر حالات التأرجح في الولاءات وفق المصالح الاقتصادية الجماعية أو الفردية، وأيضاً وفق المصالح الاجتماعية قبلياً إنها القشة التي قصمت ظهر البعير. أثبتت الانتخابات الأخيرة وصراعاتها وصرعاتها الى أي مدى غرقت هذه الولاية في مستنقع الخلافات القبلية والجهوية، كما تبين للمركز هشاشة التنظيم وعدم مقدرته على توجيه الحملة الانتخابية لوجهتها المرغوبة، إلا بتدخل المركز وهو أمر كلف الحزب كثيراً وكثيراً من المال والبنين.. ورغم ذلك تشتت أصوات الناخبين داخل المؤتمرالوطني منهم المنشقون وفيهم الناقمون وأكثرهم الغافلون، وأياً كان الحال أو مجريات الأحداث من تفاهمات لاحقة أو تصالحات مهزوزة، يبقى الرصيد في حساب الربح والخسارة، لكوادر المؤتمرالوطني بالولاية سالباً. الحركة الشعبية وديناصورها مالك عقار صاحب طموحات ضخمة في النيل الأزرق لا تساويها إلا ضخامة جسم هذا الرجل، وهو بحساب العاملين يمكنه تكسير أو تحطيم عظام من تسول له نفسه الوقوف في وجهه فرداً كان أو حزباً أو عرقاً.. وفي خاتمة المطاف سيقبض غريمه في صراعه معه الريح، لقد أفلح عقار في إيجاد موطء قدم للحركة الشعبية ولنفسه في أوساط فئات سكانية أو إثنيات لم تكن أصلاً متوافقة معها في الهوى والهوية، وذلك من خلال قطرات ندى التنمية التي تتساقط على مناطقهم بأسلوب بل الصدى وبفهم من يقرأ واقع المنطقة ومآلات السياسية بكياسة.. لقد استطاع هذا الضخم أن يسحب البساط أو كاد من تحت قيادات المؤتمر الوطني، فهو يعلم أين كثافة التعليم وأين الوعي الاجتماعي والسياسي منذ نعومة أظفاره وحتى تاريخه، لقد استمال منهم من استطاع، وحيد منهم من استعصم ولوح بالعصا لمن عصا. إن عقار هو القاطرة البشرية التي لم يحسن المؤتمر الوطني إدارة سكك الحديد لها، ويوماً ما ستتكسر تحت عجلاتها وثقلها واندفاعها كل التحويلات.. لم يذق المؤتمر الوطني طعم الهزيمة ولم تفارق شفتيه ابتسامات النصر، رغم امتزاجها ببعض المرارات، كما أن الحركة الشعبية استعذبت طعم النجاحات التكتيكية المحدودة، وتتطلع لنجاحات تتوج بنصر استراتيجي في المنطقة لم تكن لتحلم به لولا غفلة الحالمين، وتأبى أن تصحو من هذا الحلم إلا بعد أن تتم إفاقتها بواسطة الطبيب النفسي، أو الواقع المجرد أن المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في صراع الأفيال هذا، إنما يسحقان إنسان الولاية ويقتلان طموحاته ويبعثان في ربوعها بروح عصفت بها أو كادت أن تعصف بها الإنقاذ في فجرها. المشورة الشعبية التي أطلق بعض الساسة عنان تفكيرهم فيها وعنها وسخروا المفهوم والمعنى والمقاصد لأغراضهم، خاصة بعض الحركة.. وأسيئ فهمها أو هكذا أن يزج بها في الاتفاقية عن قصد، بل وعقدت لها تحت أستار الظلام وبعض ساعات النهار المؤتمرات المؤامرة، لتكون هذه المشورة بذرة ترويها الانشقاقات والانشطارات الجهوية في المناطق المعنية، نبتة سبلاتها وبتلاتها وأزهارها مفردات المشورة الشعبية، كما وردت في الاتفاقية ذات الثقوب المتعددة، أما ثمرتها المرجوة منهم هي حق تقرير المصيرالحلم المستحيل، لقد حشدت الحركة الشعبية جموعها في الأسابيع الماضية حشداً خطط له ليستفرغ من أحشائه بعض ما دسته الحركة من سموم لم تحسن اختيار التوقيت والنوع، ولا حتى قوة السم فلا هي أصابت في المشورة الشعبية مقتلاً، ولا هي حققت له بغيته في وأد تطلعات الراغبين في أن يظلوا داخل حظيرة الوطن الواحد، وفي هذه النقطة ينطبق القول السائد عن المؤتمر الوطني ما لم يقتلني يقويني. لا أقول إن الوقت في جنوب النيل الأزرق ينفد فإن لكل أجل كتاب، ولكن الأحداث تتسارع وتيرتها، والمخطط المحبوك الذي سعى اليه الطرف الآخر بدت ملامحه، بل أن عوده قد استوى وقوي واستقوى ببعض ضعاف النفوس، من أكره منهم أو أرادوا التسلق طوعاً وطمعاً في تنمية ليست مستدامة بل ظرفية في وقت وحال معلوم. إن الكرة مازالت في ملعب المؤتمر الوطني والأحزاب الأخرى لتتحد وتنسى الشقاق، وتعيد البناء لمكوناتها الحزبية والوطنية بذات الملاط، الذي يتخلل مسامات الطوب الحراري للبناء الوطني، ولتتقدم الوطنية على الجهوية. حكماء الإنقاذ ومهندسو المؤتمرالوطني وعلى رأسهم الأستاذ علي عثمان محمد طه يمكنهم إعادة التماسك لمنطقة النيل الأزرق، وذلك بالنظر لإنسان المنطقة وتطلعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتنموية، بمفهوم الشجرة الشعار ذات الأصل الثابت والفرع والظل الوارف، الشجرة التي يمكن أن تستظل تحتها القاطرة البشرية مالك ليخفف من حرارة نيران أنفاسه ويصير رضوانا، إن حالة النيل الأزرق إذا لم يتداركها الجميع فسيدركنا الغرق بقوة وسرعة اندفاع بحيرة خزان الروصيرص، حتى قبل التعلية، فالى حكيم الاتفاقية أقول: لا تلقي عصا التسيار وواصل ليلك بالنهار ولا تلقي بالاً الى ما يفعله عقار، فسيف الحق إن نبا اليوم قطعاً سيغدو عند اللقاء هو البتار، أدركوها، حصنوها، هي أرض الخير هي وجه الخير ونبع الخير إنها كل الخير وكفى.